علامات صحفية (4): صلاح حافظ.. المايسترو

طاهر عبد الرحمن

تاريخ طويل وحافل، صعودا وهبوطا، عاشته الصحافة المصرية، منذ بدايتها الحقيقية منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن، وعلى طول تلك المسيرة فإن معظم من عملوا بها حاولوا – كل بقدر استطاعته – أن يُطور المهنة، شكلا وموضوعا، ومنهم من نجح ومنهم من أخفق بحسب الظروف السياسية والاجتماعية، لكن يمكن القول بأن هناك مجموعة من الصحفيين الذين استطاعوا تأسيس مدارس صحفية كبيرة، كان لها الفضل في إرساء وتدعيم الصحافة، ونقلها تلاميذه، منهم من التزم بها ومنهم من أضافوا لها.

في هذا التقرير يواصل “إعلام دوت كوم” رصد أبرز تلك المدارس وتجارب أصحابها وأهم ما يميزها ويميزهم، ضمن سلسلة “علامات صحفية”، وفي هذه الحلقة نتحدث عن “صلاح حافظ”.

– امتحان السادات وامتحان التاريخ

بعد أيام من مظاهرات يناير 1977 سأل الرئيس السادات الكاتب الصحفي، صلاح حافظ، عن رأيه  وتوصيفه لما حدث، فأعاد حافظ نفس الكلام الذي نشره في مجلة روزاليوسف، وهو بالطبع ما لم يعجب الرئيس فقال له: سقطت في الامتحان يا صلاح.

بعدها تمت إقالة صلاح حافظ من رئاسة تحرير روزاليوسف (ومعه شريكه في الرئاسة فتحي غانم، بالإضافة إلى عبد الرحمن الشرقاوي من رئاسة مجلس الإدارة) وذلك على الرغم من أن الرئيس السادات كان بنفسه من اختار حافظ لرئاسة تحرير المجلة قبل أعوام.

الامتحان الذي سقط فيه رئيس تحرير روزاليوسف أمام رئيس الدولة لم يكن امتحانا حقيقيا، فصلاح حافظ لم يقبل – ليحتفظ بمنصبه الصحفي الكبير – أن يخالف ضميره وانتماءاته الفكرية، ومن هنا أعاد على مسامع الرئيس نفس ما كانت تقوله مانشيتات ومقالات وتحقيقات المجلة بأن ما حدث في يناير من ذلك العام لم يكن “انتفاضة حرامية” كما سماها الرئيس وإنما مظاهرات حقيقية تنذر بوضع اجتماعي كارثي.

بالطبع كان يعرف “الثمن” الذي سيدفعه من مستقبله وربما حياته، لكنه لم يتردد. وبعدها لم يتولى أي منصب تنفيذي أو تحريري في المؤسسات الصحفية القومية، واكتفى بكتابة مقاله الشهير “أوراق” في جريدة أخبار اليوم.

– ابن روزاليوسف المخلص

ولد “صلاح حافظ” يوم 27 أكتوبر 1925، بعد ساعات من صدور مجلة روزاليوسف (26 أكتوبر)، والتي ستلعب أهم دور في حياته كلها، ففي نهاية الأربعينات وبعد عدة تجارب صحفية في جرائد ومجلات مثل المسائية والنداء والقصة، دعته السيدة فاطمة اليوسف للعمل في مجلتها براتب شهري قدره 15 جنيها، ولم يتردد في القبول.

تزامن دخوله إلى المجلة مع بداية رئاسة تحرير إحسان عبد القدوس لها، وكان من الطبيعي أن يعتمد على الشباب في مثل سنه، وهو ما أتاح دخول عدد كبير جدا من شباب الصحفيين، الذين أصبحوا “نجوم” المهنة بعد سنوات.

قاد عبد القدوس – كما يقول صلاح حافظ نفسه – المجلة بروح الفريق وبطبيعة الفنان وليس الصحفي، ومن هنا كان العمل فيها يجري بسلاسة وتفاهم بعيدا عن التنافس والصراعات، وهو ما أتاح لكل واحد منهم أن يقدم كل ما عنده من إبداع وأفكار دون خوف من حسد أو ضغينة.

وكان عبد القدوس ليبراليا في كل توجهاته فلم يعترض على انتماءات زملائه الفكرية والسياسية الأخرى، حيث انتمى صلاح حافظ إلى حركة “حدتو” الشيوعية السرية، وكان اسمه الحركي بين أعضائها هو “دبوس”، وكان من أكثر الأعضاء نشاطا وحركة، وهو ما انعكس على الباب الأسبوعي الذي اشتهر بكتابته وعنوانه “انتصار الحياة”، فلم يكن يدعو للأفكار الشيوعية التي يعتنقها بقدر ما كان يدعو لحياة أكثر عدالة للفئات المحرومة والمهمشة.

– تمرد “دبوس”

بحسب كل ما كتب عنه وبشهادة الكثيرين كان صلاح حافظ يحمل “چينات” التمرد والثورة داخله، وهو ما دعاه منذ البداية أن يترك دراسة الطب ليتجه للعمل الصحفي والكتابة الإبداعية، وهو ما استدعى بالضرورة خوض معركة مع والده، الذي كان يحلم بأن يرى ابنه “طبيبا”، لكن ذلك الابن خيّب ظنه وعمل ك”جورنالجي”، وأكثر من ذلك أصبح “شيوعيا”!

في أواخر العهد الملكي قام بنشر كتابه “بداية المعركة” بالاشتراك مع فنان الكاريكاتير، زهدي العدوي، وفيه يرصد مراحل كفاح الشعب المصري ضد الاحتلال عبر السنين، وقد تضمن نقدا حادا – بالكلام والرسم – للملك فاروق ما دعا الرقابة لمصادرته.

وبعد قيام ثورة يوليو، ونتيجة لخلافات أيدلوجية وسياسية اصطدمت الأحزاب والحركات الشيوعية بها، وكانت النتيجة سنوات طويلة من الاعتقال والحبس قضاها كثير من المبدعين ومن بينهم “صلاح حافظ”، الذي قضى 8 سنوات قاسية، وهي السنوات التي حوّلته – كما كان يقول – إلى “بقايا إنسان”(!)، وإن كان ذلك لم يمنعه من أن يكتب ويؤلف، فكتب روايتيه الشهيرتين “المتمرد” و”القطار”، بالإضافة إلى مسرحية “الخبز”.

– مايسترو الصحافة والدراما

قبيل اعتقاله عام 1954 كانت السيدة فاطمة اليوسف كلفته بإعداد مجلة شبابية تصدرها وتكون برئاسته، وبالفعل وضع – كما يؤكد شهود تلك المرحلة – تصورا كاملا للمجلة، لكن الاعتقال منعه من أن يشهد مولدها، وكانت هي مجلة “صباح الخير”، والتي استكملها الأستاذ “أحمد بهاء الدين” وتولى رئاسة تحريرها لفترة من الزمن.

بعد الإفراج عنه تم اختياره لرئاسة تحرير مجلة “آخر ساعة”، وهي المجلة التي رأس تحريرها عمالقة الصحافة المصرية بداية من مؤسسها محمد التابعي وعلي أمين ومحمد حسنين هيكل، ولقد تدهور توزيعها بعد مغادرة الأخير لها عام 1957 إلى الأهرام.

 

ولم يكن صلاح حافظ – المقاتل والمتمرد- ليقبل بأن يكون مجرد رئيس تحرير عابر في تاريخ المجلة، وهكذا أصبحت تجربته فيها مثالا حيا لقدراته كصحفي و”أسطى” كبير، ففي خلال أسابيع وصل بتوزيع المجلة لأكثر من 100 ألف نسخة أسبوعيا.

وتأتي مرحلة روزاليوسف، وكان الرئيس السادات هو من اختاره بنفسه لها، بالتعاون مع صديق عمره، فتحي غانم، تحت رئاسة الكاتب الكبير، عبد الرحمن الشرقاوي، لتكون بمثابة العصر الذهبي أو التأسيس الثاني لأشهر مجلة سياسية في الشرق الأوسط، حتى حدث ما حدث بعد مظاهرات يناير الشهيرة.

وليس صحيحا أن التوجهات السياسية (الشيوعية) لصلاح حافظ هي ما دعته لمعارضة علنية مع رئيس الجمهورية، بل كان انحيازه للحقيقة قبل أي شيء، وهو ما يشهد عليه كل ما كتبه في مقالاته وكتبه حتى وفاته.

بعد إقالته من رئاسة تحرير روزاليوسف تفرغ “حافظ” لتحويل رواية صديقه فتحي غانم المهمة، “زينب والعرش”، لمسلسل تليفزيوني، وبالفعل كتب السيناريو والحوار، و”قدم عبر ذلك المسلسل صورة أخرى للإبداع والتمكن وتعدد المواهب” فهو “واحد من أفضل المسلسلات التي قدمت الصورة الحقيقية لكواليس العمل الصحفي، فضلا عن مناقشة ثرية للتطورات المتلاحقة التي شهدها المجتمع سياسيا واجتماعيا، كما ذكر الدكتور ياسر ثابت في إحدى مقالاته.

 

– كتبه ومؤلفاته

للأسف الشديد لا يمكن لأي مهتم بتراث الكاتب الكبير، صلاح حافظ، أن يعثر على كثير من كتبه ومؤلفاته، وما عدا ترجمته الشهيرة لمذكرات الفنان الكوميدي الشهير، شارلي شابلن، والذي صدر قبل سنوات عن مشروع القراءة للجميع، إلا أن البقية اختفت تماما ولم يعاد طباعتها، ومن بينها روايتيه: المتمرد والقطار.

 

قبل سنوات أعاد الأستاذ عادل حمودة، وقت رئاسته تحرير جريدة “صوت الأمة”، نشر فصول كتابه ” التاريخ الجنسي للإنسان: من الكهف إلى حبوب منع الحمل”، و”حمودة” أحد أهم تلاميذ “حافظ” والمخلصين له ولذكراه ولموهبته وتجربته.

أكثر من ذلك فإن كثير من المواقع (وشباب الصحفيين للأسف) يخلط بينه وبين الكاتب الصحفي، “صلاح الدين حافظ”، مدير تحرير جريدة الأهرام الراحل.

 

نرشح لك: علامات صحفية (3): مصطفى أمين.. جورنالجي بدرجة أديب