علامات صحفية (3): مصطفى أمين.. جورنالجي بدرجة أديب

طاهر عبد الرحمن

تاريخ طويل وحافل، صعودا وهبوطا، عاشته الصحافة المصرية، منذ بدايتها الحقيقية منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن، وعلى طول تلك المسيرة فإن معظم من عملوا بها حاولوا – كل بقدر استطاعته – أن يُطور المهنة، شكلا وموضوعا، ومنهم من نجح ومنهم من أخفق بحسب الظروف السياسية والاجتماعية، لكن يمكن القول بأن هناك مجموعة من الصحفيين الذين استطاعوا تأسيس مدارس صحفية كبيرة، كان لها الفضل في إرساء وتدعيم الصحافة، ونقلها تلاميذه، منهم من التزم بها ومنهم من أضافوا لها.

في هذا التقرير يواصل “إعلام دوت كوم” من خلال سلسلة “علامات صحفية” رصد أبرز تلك المدارس وتجارب أصحابها وأهم ما يميزها ويميزهم، والحلقة الثالثة ستكون عن “مصطفى أمين”.

– أخبار اليوم.. مغامرة التوأمين

كان ظهور صحيفة “أخبار اليوم”، 11 نوفمبر 1944، حدثا صحفيا (وسياسيا) ضخما، وتطورا مهما في تاريخ الصحافة المصرية، حيث قدم التوأمان، علي ومصطفى أمين، شكلا وأسلوبا صحفيا جديدا تماما للقارىء المصري، مع أن ذلك الشكل والأسلوب كان موجودا منذ عام 1900 في جريدة “الديل ميل” الإنجليزية، وهو ما يمكن أن نطلق عليه “صحافة الخبر” بديلا عن صحافة الرأي، التي كانت شائعة ومنتشرة منذ ظهور الصحافة في مصر.

كان التوأمان – وبغض النظر عن أي خلاف سياسي – “يأكلان ويشربان” صحافة، وكانت عشقهما الأول والأخير، وليس هناك أبلغ من توصيف “هيكل” لهما – بغض النظر عن ما كان بين الثلاثة من خلاف – حيث قال بأن “أخبار اليوم” كانت ك”سيارة”، و”علي” هو “الموتور” و”مصطفى” هو “السائق”، وقد قام كل منهما بدوره فانطلقت “السيارة” بكامل قوتها وسرعتها لتصل إلى محطتها.

كانت البداية قوية ومختلفة، وقد أقبل عليها القارىء بلا تحفظ وأعجبه الشكل والأسلوب الخبري، حيث تم التوسع فيه على حساب الرأي، فقلل ذلك زمن القراءة (مدرسة “الديلي ميل” كانت تقول كما وضعها اللورد “نوثكليف” بأن طول الخبر أو المقال لا يزيد عن 250 كلمة) واهتمام علي ومصطفى أمين بكل ما هو مثير ومقروء (على كل المستويات) كان من العوامل المؤثرة على مستقبل ومكانة الجريدة.

بعيدا عن التوصيفات السياسية والأيدلوجية فإن تلك الصحيفة (التي بدأت أسبوعيا يوم السبت وتحولت بعد سنوات إلى يومية) كانت ناجحة وبالتالي كانت في حد ذاتها “غاية” لكل كاتب وصحفي مشهور أو مغمور، ولذلك لم يكن من الغريب أن تظهر على صفحاتها مقالات لكبار كُتاب العصر، وأيضا مواهب وقدرات صحفيين أصبحوا بعد ذلك “نجوم” الحركة الصحفية وأقمارها.

– عاشق الصحافة

كل شيء – تقريبا – في حياة مصطفى أمين لا يمكن تفسيره إلا من خلال علاقته بالصحافة سلبا وإيجابا. من الممكن جدا أن نتحدث عن غرامه الشديد (مع توأمه طبعا) بالصحافة منذ طفولته وإصداره لصحيفة “منزلية” في بيت الأمة، بيت سعد زغلول باشا، حيث كان بمثابة الجد له (والدته كانت ابنة شقيقة الزعيم)، أو كيف أصبح محررا رئيسيا في مجلة روزاليوسف وهو لا يزال طالبا في المرحلة الثانوية، أو موقعه في “آخر ساعة” بجوار أستاذه “محمد التابعي” وكان في غيابه مسؤولا عنها بشكل كامل، (وهناك من يؤكد أنه من اختار اسمها) أو كيف أصبح رئيسا لتحرير مجلة “الإثنين”، وهي مجلة سياسية كان لها تأثير كبير في زمنها، وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، حتى تمكن (مع توأمه) تحقيق حلمه في امتلاك دار صحفية وتنفيذ مشروعاته وأحلامه حتى منتصف الستينيات.

كل ذلك ما يمكن – بالتفاصيل أو بالاختصار – قوله وسرده عن حياة مصطفى أمين، لكن ربما لم تشهد الصحافة المصرية (والعربية والعالمية) صحفيا عاش حياته كلها للصحافة وبالصحافة مثله، حتى أن مكتبه في أخبار اليوم كان بمثابة غرفة معيشة كاملة له، وكان يومه يبدأ بالأخبار وينتهي بها، وكانت علاقته بمرؤوسيه تتحدد وفقا لقدرة كل واحد منهم على الحصول على خبر له أهميته أو لم يسبق له صحفي آخر أو جريدة أخرى.

– الصحافة والسياسة

علاقة الصحافة بالسياسة في أي مجتمع علاقة معقدة ومتشابكة، وفي المجتمع المصري أكثر تعقيدا وتشابكا، وفي حالة مصطفى أمين، بالتحديد، تصبح أكثر التباسا، فالصحفي دائما يريد من السلطة ما لديها من معلومات، والسلطة لا تريد أن تعطي إلا بمقدار ما يخدم أهدافها، كما أن الصحفي – بحكم اقترابه من السلطة – يعرف أكثر مما ينشر، وبالتالي فما هي الحدود التي يجب اتباعها؟ وشكل العلاقة بين الطرفين؟

أغلب الظن أن مصطفى أمين، في كل مراحل حياته الصحفية، لم يشغل باله بالإجابة على ذلك السؤال، وربما لم يكن مطلوبا منه أن يبحث عن الإجابة.

ولعل ما لا يعرفه الكثيرون أنه – ورغم ما شاع عن علاقته بالسياسة والساسة في العصر الملكي، فإنه كاد أن يحاكم أكثر من مرة بتهمة العيب في الذات الملكية، ربما كان آخرها عندما نشر حوارا (أجراه شقيقه علي) مع الملكة نازلي، وقت صراعها مع ابنها الملك فاروق أواخر سنوات مُلكه.

كان “مخبرا صحفيا” لا مثيل له، وكان يفعل المستحيل للوصول للخبر من مصدره، وهو أمر نختلف أو نتفق معه، ولكن كان دائما يضمن لجريدته توزيعا غير محدود.

ومما لا شك فيه أنه كان – في كل العصور – يمتلك معلومات كثيرة، دعت الكثيرين – ومهما كان رأيهم فيه – أن يستعينوا به وبمعلوماته وعلاقاته خارج وداخل مصر للاستفادة منه ومنها، وكان ذلك – بشكل ما – خصما من دوره الصحفي لحساب العمل السياسي.

– تريند الستينيات

كان مصطفى أمين سابقا لعصره، يظهر ذلك في “مانشيتاته” المثيرة، والتي سبب الكثير منها أزمات خطيرة وكبيرة، ليس أقلها مانشيت “مصرع السفاح” و”أكتب لكم من سرير فاتن حمامة”، وهي طريقة وأسلوب صحفي قد يرفضه البعض، خصوصا وأن كثير منها تم تفسيره بعيدا عن هدف من كتبوها.

وهذه مدرسة صحفية يتحمس لها كثيرون ولها أنصارها، ترى أن الصحافة في مجملها “خبر مثير” لكن لا يصح تقديمه هكذا مجردا وإلا فإنه يفقد الكثير من قيمته، ولذلك يجب إضافة بعض “التوابل” له حتى يصل للقارىء كما يجب، وهو أمر موجود ومعترف به في كل صحافة العالم، مع اختلاف طبيعة كل مجتمع.

إن مصطفى أمين، لم يدع يوما لنفسه مكانا أو مكانة بعيدا عن الصحافة، ربما أراد أن يكون قريبا من السلطة، وهذا حق كل صحفي ليحصل على المعلومات، لكن الاختلاف – فقط – في طريقة استخدام تلك المعلومات، من وإلى (وبين) السلطة والقارئ.

– الجورنالجي

في تاريخ الصحافة المصرية كلها فإن أكثر من يستحق لقب “الجورنالجي” هو مصطفى أمين وعن جدارة..

 

انظر إلى أي صورة له في أي مكان ومع أي إنسان، وستشم منها رائحة الحبر والمطابع ودوران ماكينات الطباعة، وربما كانت أصعب سنوات عمره على الإطلاق هي فترة سجنه (1965- 1974) ليس فقط لأنه فقد فيها حريته ولكن لأنه كان بعيدا عن الجريدة والمطبعة!

 

 

– كتابات لا تُنسى

تمتع مصطفى أمين – بجانب مواهبه الصحفية – بموهبة أدبية لافتة حتى وهو يكتب في أمور السياسة، وبلا شك فإن تجربته الحافلة والطويلة انعكست على كتاباته، وهي كتابات تنوعت بين السياسة والأدب ومذكراته.

كان أول كتاب يقدمه للقارىء المصري هو “أمريكا الضاحكة”، وهو كتاب ساخر عن المجتمع الأمريكي في الثلاثينيات من القرن العشرين حين كان يدرس ويقيم هناك.

ولا ننسى أنه مؤلف قصة فيلم “فاطمة” لكوكب الشرق، أم كلثوم، وقصة “معبودة الجماهير” للفنانة شادية، بالإضافة إلى تحويل بعض مؤلفاته إلى أعمال دارمية، مثل روايته الأشهر “لا”، وأيضا قصته “الآنسة كاف”.

وهناك سلسلة يومياته ومذكراته في فترة السجن، وكلها “أدب” من طراز رفيع، بغض النظر عن مدى مصداقيتها أو مطابقتها للواقع، وكذلك كتابه المهم “شخصيات لا تنسى” الذي قدم فيه شهادة عن كبار الشخصيات التي عاصرها وتعامل معها في السياسة والصحافة، وأيضا كتابه الأهم “الكتاب الممنوع” عن ثورة 1919 وبعض مشاهدها المخفية والغير معروفة، وكان هو – بحكم صلة القرابة مع زعيم الثورة – يعرف جزءًا منها.

نرشح لك: علامات صحفية (2): فاطمة اليوسف.. صاحبة الجلالة.