إيهاب الملاح يكتب: "كيميا.. في البحث عن ابنة مولانا!"

نقلًا عن الشروق رواية كيميا

منذُ أن نشرت إليف شافاق روايتها “قواعد العشق الأربعون”، عن الصوفي الأشهر جلال الدين الرومي، والنجاح المذهل الذي حققته ما جعلها تتربع على عرش الأكثر مبيعًا لسنوات (وربما ما زالت حتى الآن!)، وانطلق بعدها طوفان جارف من الأعمال التي تحاول أن تقلد التجربة، وتستدعي الشخصية الصوفية بوعي أو بدون (وهو الغالب الكاسح). قلة محدودة وسط هذا الطوفان الجارف استطاعت أن تنأى بنفسها وتأوى إلى جبل مكين وراسخ من الفكر النقدي والرؤية الجمالية والقدرة الحقيقية على كتابة رواية تعالج بعض ما اتصل بهذه الشخصية الصوفية الإشكالية. هذا ما فعله بامتياز واقتدار الكاتب والروائي وليد علاء الدين في روايته الصادرة أخيرًا عن دار الشروق “كيميا”.

في جلسة واحدة ممتدة؛ يمكنك أن تنهي بشغف وافر واستمتاع حقيقي هذه الرواية التي لا أتحفظ في وصفها بـ “الرائعة”، كُتبت بيد خبيرة مدربة، وصنعت مزيجًا مدهشًا بين الحلم والخيال والواقع، وبين التجربة الصحفية في اكتشاف خلفيات الاحتفال بالرومي، وسر الشهرة التي نالها، والتجربة الروحية الصوفية الشفيفة في البحث عن “كيميا” أو كما تُعرف في سيرة الرومي بـ “ابنة مولانا”.

تنطلق شرارة السرد في الرواية، من اللحظة الراهنة التي تبدأ فيها الأحداث؛ وانتقالًا إلى زمن قديم “زمن الرومي” وعصره ومصره وأهله، وبينهما زمن خاص، زمن الحلم والخيال وانعدام الزمن! وتتفرع خيوط السرد إلى ثلاثة مسارات للحكي تتنقل بسلاسة وانسيابية بين هذه الأزمنة رواحًا ومجيئًا. تحضر شخصية الكاتب كشخصية روائية في “كيميا”، فقد آثر البدء بمد خيط لعبة التخييل والإيهام إلى آخره، ومخاطبة جمهور القراء باعتباره “شخصية روائية”، وليس “كاتبًا” للنص (مثلما فعل طلال فيصل أيضًا فى روايتيه “سرور”، و”بليغ”).

كل من سيقرأ الرواية سيجد أنها مجموعة أوراق كتبها شخص معين، سيعثر عليها فيما بعد شخص آخر اسمه “وليد علاء الدين”، ستقع بين يديه، ليقرأها ويقرر نشرها على الناس، ثم تنطلق الأحداث بإيقاع يتحكم فيه المؤلف باقتدار وجدارة واحتراف. تتقاطع مصائر الشخصيات بصورة عجيبة، يندمج الشرق والغرب في لوحة تصويرية بديعة، وكأننا بإزاء “واقعية سحرية” عربية، بسيطة سلسة (دون تقليد أو تعقيد أو استنساخ فج)، عابرة للبلاد والألوان والأديان، خيال خصب ساخر وساحر، ونماذج إنسانية تدفعك لتأمل المسلمات، رواية تحتفي بالجنون المقدس، بالحب، بالخيال، وباختيار الإنسان لما يريد، تحتفي بالإنسان كإنسان، تتعاطف معه، وتجد الجائزة الكبرى في الرحلة نفسها، وليست الجائزة فيما نحققه من ثمار وثمرات.

أما لغة الكتابة؛ فلغة مصورة، مقتصدة، ومحكمة، والسرد ممتع ومشوق، ورغم كثرة الروايات والنصوص التي تتزاحم للحديث عن جلال الرومي منذ النجاح المدوى لرواية إليف شافاق “قواعد العشق الأربعون”، فإن الكاتب يقرر أن يخوض التجربة ويعلن التحدي؛ نعم.. هذا هو التحدي الأصعب بالنسبة لكاتب قرر ذلك.. فكيف تكتب عملًا لافتًا ومتميزًا وسط أعمال عديدة ويكون مختلفًا ومتفردًا ولا يقلد أيًا منها؟.

أظن أن هذا النص قد خاض التجربة واستجاب للتحدي، ونجح تمامًا في أن يقدم نصًا روائيًا جديرًا بالقراءة، وجديرًا بالمتعة والاحتفاء.. ولا يخفي براعةُ المؤلف في قدرته على توريط قارئه في خيوط اللعبة (التي تشبه بحر الرمال الناعمة) ويمدها على استقامتها، منذ البداية، بنعومة وبساطة وأبعد ما يكون عن الفجاجة والمباشرة والخطابة في نثر أفكاره وتأملاته التي تشكل نسيج عمله الروائي.

هكذا ينبغي أن تكون الرواية، وأتصور أن الأمر ليس بـ “مهادنة للقارئ”، بقدر ما هو البراعة في إثارة فضوله واستمالته كي يجلس ويقرأ الرواية باستمتاع، ويستمع إلى الحكاية حتى آخرها، ويجد نفسه متورطًا في هذه اللعبة السردية اللذيذة حتى النهاية.

هذا عمل متميز للغاية، ويستحق الاحتفاء والقراءة بصورة لائقة، ولا أخفي أبدًا حماسي الشديد للأعمال التي أتصور أنها تحظى بميزتين مهمتين؛ البراعة الفنية، والسؤال الإشكالي الذي يستحق أن يطرح بذاته كتجربة سردية جمالية، وأتصور أن هذا العمل سيثير من الأصداء ما يستحقه.. أو هذا ما آمله.

كما أراهن على المساحات الكبيرة التي يمكن لنص محكم مثل هذا أن ينافس بها في جوائز الرواية المختلفة؛ المحلية والعربية، وأظن أن فرص الظفر بإحداها قريبة.