أحمد فرغلي رضوان يكتب: عندما تصالح يوسف شاهين مع جمهوره

كان مشهدا لافتا لي حينما ذهبت لاستوديو مصر في نهاية نوفمبر 2006 لحضور احتفال انطلاق تصوير أخر أفلام يوسف شاهين “هي فوضى”، الاهتمام كان واضحا من الجميع وكأنهم كانوا يشعرون أنه سيكون أخر أعمال الأستاذ، الجميع ينتظر حضوره وتحضيرات التصوير والممثلين في اللوكشن تسير على قدم وساق، ها هو “شاهين” يظهر أمامنا وسط ترحيب الجميع تسبقه ابتسامته الطفولية “الصادقة” ويستند على يد تلميذته المخرجة منال الصيفي ويسير بجواره تلميذه الأبرز خالد يوسف كان “المرض” باديا على شاهين ولكن عشقه للسينما جعله ينسى تعبه بمجرد دخوله البلاتوه ومشاهدته الممثلين والكاميرات وبدأ في الحديث ومداعبة الجميع كعادته.
 

يعتبر فيلم “هي فوضى” واحدا من أقرب أفلام شاهين للجمهور وأيضا أفضلها وأكثرها جرأة وبالفعل تعرض السيناريو لملاحظات رقابية كثيرة ولكن الراحل علي أبو شادي “مسئول الرقابة” وقتها نجح في أن “يمرر” العمل بصعوبة، وبعد شد وجذب بين شاهين والجهات الأمنية، فهو يتحدث عن فساد جهاز الشرطة وما يفعله أمناء الشرطة في مصر من تجاوزات وخروج على القانون! ووصل الحد إلى أن اسم الفيلم أزعجهم كثيرا وكأن قلوبهم كانت تشعر بشيء ما يظهر في الأفق البعيد، وبالفعل ما حدث في الفيلم من “فوضى” داخل قسم الشرطة كان جزءا من الحقيقة فيما بعد خلال أحداث يناير 2011! ولذلك نقول أن شاهين كان قريبا جدا من الشارع وإحساسه بالناس كان كبيرا، ويعتبر من أبرز الفنانين المصريين المعارضين وطالما حملت أفلامه نقدا سياسيا لأنظمة الحكم التي عاصرها، اللافت كان استقبال الجمهور لفيلم “هي فوضى” بشكل يفوق أفلامه الأخيرة وبالفعل حقق إيرادات كبيرة وغير مسبوقه لأفلام شاهين، وممكن أن تقول أن علاقته كانت مع الجمهور “متوترة” فالجمهور يحمل له تقديرا كبيرا وحبا على المستوى الإنساني وينتظر في كل عمل أن يفاجئه بشيء جديدا، وأحيانا يصدق إحساس الجمهور ولكن كثيرا ما يخرج “غير فاهم” لما حمله الفيلم من أفكار ورسائل ومع ذلك كان يستمتع بمشاهدة لوحة فنية سينمائية بديعة شديدة الإتقان من صورة وديكور وموسيقى وأيضا تمثيل بتوقيع هذا المخرج المبدع.

                      نرشح لك – 21 تصريحا لـ منال الصيفي.. أبرزها عن علاقتها القوية بيوسف شاهين

أذكر أن المؤلف ناصر عبد الرحمن حكى لي أنه ظل يقوم بتعديلات على السيناريو والحوار لأكثر من عشرين مرة! حتى كاد اليأس يتسرب لنفسه ويعتذر عن استكمال الكتابة ولكن فجأة وجد الأستاذ يوافق أخيرا على السيناريو ويقول لي كان يبكي وهو يقرأ مشهد النهاية “انتحار حاتم”، وكان شاهين ديكتاتور داخل البلاتوه وليس من السهل أن يقتنع بمشهد “مهم”، فيروى أنه أثناء إخراج شاهين لمشهد النهاية في فيلم “الأرض” واحد من أهم وأصدق مشاهد السينما المصرية رغم تصفيق كل من في البلاتوه لأداء المبدع محمود المليجي إلا أن “شاهين” أعاد تصويره 17 مرة حتى يقتنع!

احتفاء عالمي

 

ذات يوم كنت في زيارة للمخرج خالد يوسف بمكتبه وإذا به يفاجئني أن فيلم “هي فوضى” تم اختياره للمشاركة في المسابقة الرسمية لمهرجان “فينيسيا” وبالطبع كان خبرا هاما للسينما المصرية والعربية، ولكن كان هناك خبر أخر اكثر مفاجأة وهو أن يوسف شاهين طلب من المنتج جابي خوري وضع اسم خالد مع اسمه كمخرج للفيلم، بالطبع كانت مفاجأة كبرى وسابقة في أفلام شاهين ولكنه وجد أن خالد هو صاحب الجهد الأكبر في إخراج الفيلم في ظل معاناة شاهين الصحية أثناء التصوير وهو تقدير من الأستاذ تجاه أحد تلاميذه.
 
ويقول “خالد”: “مفاجأة وشرف كبير أن يفعل الأستاذ ذلك معي ولكن عندما سألته لماذا؟ قال لي هذا حقك، وأثناء التصوير كان كل ما يهمني أن أشاهد السعادة علي وجهه لإنجاز هذا الفيلم ولأنني أعرف مدي عشقه لفنه كنت أريد تنفيذ كل ما يريده بدقه وتفرغت تماما وأجلت مشاريعي السينمائية”.
 
ومن اللحظات المؤثرة أثناء تصوير “هي فوضى” حينما ذهب شاهين لبلاتوه التصوير وكان مريضا جدا ونظر إلى كاميرا “كرين” التصوير وطلب من خالد يوسف أن يصعد بها وبالفعل صعد وجلس بجواره وكانت المرة الأخيرة وكان بمثابة مشهد وداع لمحبوبته “الكاميرا” وسط تأثر من في البلاتوه.
 
يعتبر شاهين من أكثر المخرجين العرب تواجدا في أهم مهرجانات السينما العالمية كان، برلين فينيسا، كارلوفيفاري وغيرها، كما أنه المخرج العربي الأكثر مشاركة في مسابقات مهرجان كان في تاريخه بعشرة أفلام بدأت مع “ابن النيل” 1951، وانتهت مع “اسكندرية نيويورك” 2004، ووصل التقدير العالمي لأقصى درجاته عندما تقرر منحه السعفة الذهبية لمهرجان كان 1997 في احتفال المهرجان باليوبيل الذهبي وكانت بمثابة تعويض له عن مشاركاته العديدة وعدم منحه أيا من جوائز المهرجان.
“كان يوسف شاهين مقاتلاً لا يكل ضد التطرف والعنف، ومدافعًا شرسًا عن التسامح واحترام الآخر”.. هكذا وصفه الرئيس الفرنسي الأسبق “جاك شيراك” في برقية عزاء عقب وفاته.

 

ظل شاهين طوال مشواره الفني بمثابة كشافا للمواهب الشابة ومنحهم فرص كبيرة، وآخر همه “نجوم الشباك”، إحساسه بالممثل الموهوب لا يخطيء أبدا منذ قدم عمر الشريف كبطل عام 1953 في فيلم “صراع في الوادي” وصولا لمنحه البطولة السينمائية لخالد صالح في “هي فوضى”، تقريبا لم يظهر فيلم ليوسف شاهين بدون وجوه جديدة.
 
 
النصيب الأكبر بقائمة أفضل 100 فيلم مصري
 
لشاهين النصيب الأكبر للمخرجين في قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية 12 فيلم هم (الأرض – باب الحديد – الناصر صلاح الدين – صراع في الوادي – أسكندرية ليه – العصفور – عودة الابن الضال – المهاجر – الاختيار – جميلة – ابن النيل – حدوته مصرية).
 
الموسيقى والغناء احتلا جزءا كبيرا من إبداع يوسف شاهين فكان يسعى لتقديم السينما الغنائية كلما سمحت الفرصة فهو عاشق لها ولذلك وافق على إخراج فيلم “بياع الخواتم” رغم أنه لبناني من الألف إلى الياء وأيضا لحبه الكبير لفيروز ولكنه يحكي أن التجربة كانت “متوترة” بسبب تدخلات عاصي الرحباني في كثير من الأمور وتشاجره الدائم معه ومع فيروز، وكذلك تجاربه مع مطربين أخرين تتوقف أمامها مثل ماجدة الرومي في “عودة الابن الضال”، وداليدا في “اليوم السادس”، ولطيفة في “سكوت هنصور”، وقبلهما الثنائي فريد الأطرش وشادية وفيلم “أنت حبيبي”.
 
 
تنوع كبير وإنجازات فنية مهمة حققها شاهين في السينما خلال أكثر من نصف قرن جعلته مثار إعجاب الجميع حتى الذين اختلفوا معه، فكان نموذجا للمخرج كما يجب أن يكون.
 

ذات مرة قال لي أحد المخرجين المهمين “كلنا نريد أن نكون يوسف شاهين، حتى وإن لم نصرح بذلك”..

الذكرى الـ10 لرحيل المهاجر