"اختفاء".. رومانسية نيللى كريم في زمن زوار فجر الستينيات

نقلًا عن “المقال”

إيهاب تركي

فى الفيلم الألمانى The Lives of Others «حياة الآخرين»، الحائز على أوسكار الفيلم الأجنبى عام 2006، نشاهد حكاية تجمع بين التشويق والرومانسية، إذ يكلف ضابط كبير بجهاز أمن الدولة بألمانيا الشرقية فى حقبة الثمانينيات أحد ضباطه المخلصين بمراقبة كاتب مسرحى ورفيقته الممثلة، ويقوم الضابط المخلص بزرع الميكروفونات فى منزل الكاتب ورفيقته، ويقيم بالشقة المجاورة ليتنصت عليهما، وكان ظنه أنه يراقب شخصا متهما بمعاداة نظام الدولة الاشتراكى، لكنه يكتشف أن عملية التنصت تتم لصالح مسؤول كبير بالدولة، مغرم بالممثلة، صديقة الكاتب المسرحى، ويرغب فى التخلص منه بأى حجة، ويتعاطف ضابط المراقبة مع الكاتب ورفيقته، ويبدأ فى كتابة تقارير فى صالحهما، رغم اكتشافه أن الكاتب له بالفعل آراء مناهضة للفكر الاشتراكى، ويستخدم آلته الكاتبة فى كتابة منشورات ضد النظام.فى مسلسل «اختفاء»، وفى حقبة ما بعد هزيمة 67 يكلف رجل المخابرات الكبير ضابط المخابرات الجديد أحمد موافى «محمد ممدوح» بمهمة مراقبة سيدة المجتمع الأرمنية الأصل نسيمة سوفليان «نيللى كريم»، المشكوك فى عدائها وزوجها الفنان التشكيلى «محمد علاء» لنظام الدولة الناصرى، ويتنصت على حوارات الزوجين وأصدقائهما من خلال أجهزة زرعها فى منزلهما، ويقيم فى الشقة المجاورة بهوية مزيفة، ويتقرب منهما ويصبح صديقا لهما، ومع الوقت يكتشف أن قائده الذى كلفه بالعملية مغرم بنسيمة، ويرغب فى الانتقام من رفضها له سابقا.

هذا التشابه بين قصة الفيلم الألمانى وجزء من حبكة المسلسل يختلف فى بعض التفاصيل، وفى الإطار العام للعمل الذى يحكى قصتين يفصل بينهما 50 عاما، قصة نسيمة وقصة فريدة، وكلاهما تجسدهما نيللى كريم، ويمثل الشبه الغريب بين ملامح المرأتين لغزا محيرا، وفى النسخة المصرية من حكاية الفيلم الألمانى كثير من الإضافات والاختلافات، أهمها أن تعاطف ضابط المراقبة موافى يتحول لعشق لنسيمة، ورغبة فى التخلص من زوجها، أو هذا ما تقدمه رواية معاصرة كتبها شريف عفيفى «هشام سليم»، ويتهم فيها موافى الذى عاش بهويته المزيفة كمهندس يحمل اسم سليمان عبد الدايم بقتل زوجة نسيمة ليتزوجها، وشريف عفيفى هو زوج فريدة «نيللى كريم» الذى تعرض لحادث سير غامض وظل فى غيبوبة طويلة، وتركته فريدة أستاذة الأدب الروسى وذهبت فى بعثة إلى موسكو، بعد يأسها من شفائه.

تبدأ أحداث المسلسل فى موسكو، وفريدة تكتشف أن زوجها أفاق من غيبوبته قبل فترة، ويستعد لنشر روايته الخطيرة، التى يهاجم فيها سليمان عبد الدايم، رجل الأعمال العجوز، صاحب النفوذ الكبير، ويختفى شريف فجأة وكذلك أصل روايته، وتجد فريدة نسخة مخبأة منها، وتبدأ قراءتها ليتحول المسلسل إلى حكايتين، وكثير من الفلاش باك، وتبقى كل التفاصيل التى نشاهدها فى كلا الزمنين مجرد إطار كبير لكثير من الأسرار التى يكشف عنها العمل تباعا، ويصنع الكاتب أيمن مدحت العديد من التويستات الدرامية التى تقلب مسار الأحداث، والانطباعات النمطية عن الشخصيات.

أجواء المراقبة التى تعود لحقبة رجل المخابرات صلاح نصر فى نهاية الستينيات لا تجرف المسلسل إلى منطقة الدراما السياسية، ولكنها تظل إطار تشويقى لحكاية رومانسية مليئة بالغموض، وتسير حكايات الحاضر بغموضها مع فلاش باك الماضى، وما يجمع الحكايتين شخصية سليم عبد الدايم أو موافى سابقا، وأيضا التشابه غير الطبيعى بين أستاذة الجامعة فريدة ونسيمة، وتجسد نيللى كريم دور نسيمة بأداء مفعم بدفء شخصية نسيمة، العاطفية المحبة للحياة، وهى شخصية جريئة ومنطلقة ومحبة للحياة، تحمل مزيجا من الروح الغربية والدفء الشرقى، وهى تحاول ممارسة حياتها كمحبة للفن والحب والحياة فى زمن قاتم مهووس بالشك فى الأجانب، وتجد فى زوجها الفنان التشكيلى المختلف فى أفكاره الزوج المثالى، فى حين تبدو فريدة شخصية أكثر عملية وعقلانية، يسيطر عليها الشعور بالذنب بعد سفرها وترك زوجها فى غيبوبة، وهى شخصية أكثر جدية وقتامة، وتعود بعد أن تكتشف أن زوجها أفاق من غيبوبته ويعيش مع زوجة أخرى «بسمة»، وهى المرأة التى تابعت رعايته بعد تخلى فريدة عنه.

رغم تباعد الخيوط الدرامية بتفاصيلها فى الحكايتين، لكن هناك تقاربا وتشابها فى الأزمات التى تتعرض لها البطلة وزوجها، وهذا ما نراه يتصاعد شيئا فشيئا مع تطور الأحداث. منذ البداية ونحن نتابع رحلة بحث فريدة عن زوجها الذى اختفى فجأة بعد مؤتمر صحفى، وزوج نسيمة اختفى فجأة فى أحداث الرواية التى كتبها شريف عفيفى، وهناك مشتبه به واحد مسؤول عن اختفاء الرجلين، وهناك خيوط درامية أخرى تبدو مختلفة فى الحكايتين، ولكنها تصل إلى نهايات متقاربة، مثل التحقيق مع نسيمة بتهمة التجسس، والتحقيق مع فريدة بتهمة إزعاج السلطات والبلاغ الكاذب، وكأن التاريخ يعيد نفسه، أو هناك من يعبث بالحاضر ليبدو كما لو كان يشبه الماضى.

كما نرى خيوطا سردية تأخذنا فى طرق عكسية، وشخصيات تنتقل من خلال مواقف جديدة من موقع الخير للشر والعكس، وهذا جزء من التشويق الذى يلجأ إليه الكاتب أيمن مدحت والمخرج أحمد مدحت ليضيفا مزيدا من الغموض على أحداث قصة لا تبوح بالحقيقة بسهولة، وهناك تأجيل لحل اللغز الأكبر الذى ينتظره المشاهد من البداية، وهو إجابة سؤال محورى، وهو: ما هو مصير نسيمة وزوجها؟ هل قتل الزوج فعلا؟ ومن قتله؟ وهل ماتت نسيمة فعلا؟

شلة أصدقاء نسيمة هم مجموعة من المثقفين والفنانين، ورغم أنهم فى بعض التسجيلات نسمعهم يتحدثون فى السياسة بعد النكسة لكن لم تكن تلك المواقف حاضرة فى صورة الحفلات كما قدمها المسلسل، وحتى حوار التسجيلات جاء غير معبر عن فضفضة شخصيات تتحدث بمرارة عن ظروف البلاد بعد النكسة، وحتى عبد الناصر لم يكن يشار له بالاسم، وحقيقة أن المسلسل عن علاقة حب الضابط لنسيمة لا يعنى إهمال تصوير تفاصيل هذه الليالى التى تمثل جزءا هاما من أجواء العالم المحيط بنسيمة وزوجها نادر.

المسلسل نجح فى حلقاته الأولى فى تقديم حكاية مثيرة، بإيقاع سريع ورشيق، وموسيقى تامر كروان صنعت نقلات زمنية وحافظت على الأجواء المتوترة التى لا تخلو من ميلودى رومانسى ناعم تصنعه الوتريات، معبرا عن حالة الحب القاتمة التى يكنها سليمان لنسيمة.

ثم بدأ الإيقاع يترهل والأحداث تتراخى فى الحلقات التالية، وعادت مرة أخرى لأجواء الإثارة مع ظهور شخصية بسمة، ومع بداية التعارف بين شخصية سليم عبد الدايم وفريدة. شخصية سليمان عبد الدايم وعلاقته بنسيمة وغموضه هى العناصر الأكثر قوة فى الحبكة، وأداء محمد ممدوح نقل مشاعر ونفسية الشخصية بحساسية شديدة، بغض النظر عن الماكياج الضعيف الذى أثر بلا شك على أدائه لشخصية سليمان الثمانينى، كما أنه محور الأحداث، والمؤثر فى حركتها كما فى الفيلم الألمانى.