وليد علاء الدين يكتب: رمضان كريم وليس "سفيه"!!

ما أن تهل علينا بشائر الشهر الكريم حتى تزدحم الشوارع بلافتات الإعلانات عن موائد الرحمن التي يتنافس على إقامتها الأثرياء والأعيان والمشاهير، وتنهال علينا من كافة وسائل الإعلام والإعلان مطالبات واستجداءات الجمعيات الخيرية الرسمية والأهلية للتبرع للصائمين بكرتونة رمضان مرّة وشنطة رمضان مرّة أخرى.

نرشح لك: وليد علاء الدين: “مسرح مصر” لا يقل خطورة عن المخدرات

لو أننا جمعنا عشرات الملايين التي يتم إهدارها على هذه الشنط والكراتين وتلك الوجبات وخيم الإفطار الكبيرة والصغيرة، المكيفة والعادية، على الواقف وعلى الجالس، ومعها تكاليف حملات الإعلان والترويج والاستجداء من أول منشورات إشارات المرور وصولًا إلى لوحات الطرق وإعلانات التليفزيون باهظة التكاليف، وخصصنا هذه الثروة الطائلة -بنظام الوقف الاستثماري- لإنشاء عدد من المصانع والمزارع ووحدات الإنتاج والمشاريع الكبرى أو الصغرى أو ما بينهما… لكانت سببًا في ستر عشرات الآلاف من الأسر بشكل قد يؤدي -إذا استمر العمل سنويًا – إلى عدم وجود فقير ينتظر وجبة إفطار أو كرتونة صيام من متفضل أو متصدق!

مريبة في ظني هي الطريقة التي يتصارع ويتسارع الناس بها على المساعدة بأموالهم في “كرتونة رمضان”، ومريبة كذلك الطريقة التي يتكالب بها الأثرياء والموسرون على إقامة وتنظيم والإعلان عن موائد الرحمن، يجعلني الأمر أتشكك في أن الدافع من ورائها مجرد رغبة في الأجر والثواب، إلا إذا كان هذا الدافع الطيب مخلوطًا بشبهة أخرى، أبسطها الجهلُ والغفلة عن أشكال فوائد حقيقية كثيرة يمكن أن تصنعها هذه الأموال للفقراء.

في ظني أن الحريصين من الأشخاص الأثرياء ومن الجمعيات المسماة بالخيرية، على إقامة موائد الرحمن وتوزيع كراتين الطعام على الفقراء، لا يخلون في قرارات أنفسهم من رغبة في استمرار الفقر والحاجة إلى وجبة طعام وكرتونة صيام، لأنهم يستفيدون من ذلك، ليس الفائدة دائمًا أموال، فهم يملكون منها ما يسمح لهم بالتفضل ببعضها كثُر أو قل، وإنما يستفيدون اجتماعيًا ومعنويًا. حتى من يفعل ذلك بنية الخير فهو جاهلٌ لا يرى إلا مصلحته المتمثلة في الحصول على الأجر والثواب ظنًّا منه أن الله سوف يضاعفه له نظير هذا الفعل الخصوصي (إفطار صائم في رمضان)، وكأن الزمن لم يمر وكأن الحياة لم تتعقد وكأن حاجات الناس لم تتطور. أيها السادة الأخيار الراغبين في فعل الخير عن طريق وجبة إفطار في الشهر الكريم، الفقراء في رمضان هم الفقراء في بقية شهور السنة، وإطعامهم خلال الشهر الفضيل لن ينقلهم إلى دائرة الغنى ولا حتى الستر. والفقير في رمضان يمكنه توفير إفطاره وسحوره بالطريقة نفسها التي يوفر بها وجبتي الغداء أو العشاء في غير رمضان.

نرشح لك: منير وهند.. وجوة إعلانية لكل الشبكات  

ما يجعل الفقير فقيرًا إلى الحد الذي يجعل السادة أهل الخير يشملونه بعطاءاتهم في شهر الكرم، هو أنه لا يملك مصدر دخل كريم، ولا يضمن فرصة عمل شريف في مصنع أو في ورشة أو في مزرعة له أو لأحد أبنائه أو لأي فرد من أفراد الأسرة، ليزداد الدخل وتتسع معه رقعة الأمل في عيشة أكثر أمنًا وكرامة. فماذا لو وجهتم هذه الملايين في إنشاء مصنع أو ورشة أو مزرعة! نحتت البلاغةُ المصرية مقولة صارت مثلًا: “ماحدش بيموت من الجوع” وقالت كذلك “ماحدش بيبات من غير عشا”، وهما مقولتان لا زالتا متحققتين على أرض مصر بفضل الله، رغم صعوبة الحياة.

من يعرف مصر يدرك روعة منظومة التكافل غير المرئي أو غير المعلن التي تستند بداخلها أكتاف الناس على بعضهم البعض، جيرانًا وأقارب وأصدقاء، وهي منظومة شديدة التعقيد والحساسية، كانت ولا زالت سببًا في بقاء هذا المجتمع وتجاوزه الكثير من الصعوبات والمحن والأيام السوداء.

لن تضيف شنطة رمضان ولا كرتونته إلي هذه المنظومة البديعة أي قيمة حقيقية. لا أرى في شُنط رمضان وموائد الرحمن وحملات الاستجداء المسعور في شهر الرحمة سوى ملايين مُهدرة، ولا أرى في هذا الحرص على العطاء –بهذه الصورة- سوى الجهل والجشع، جهل الأثرياء بأن هذه الأموال يمكنها أن تصبح مصدر دخل ثابت لأسر تعيش حياتها على حد الجوع ولن ينقذها أن تزداد وجبة أو وجبتين فاخرتين في رمضان. وجشع الطيبين في أجر وثواب خصوصي طبعة رمضان “سبيشيال”- كما يعتقدون؛ فهم من الأساس يمارسون الدين بمنطق “التبادل التجاري” الذي غُرس في قلوبهم من وعاظ الجهل على مدار السنين، ولا يعنيهم من الخير سوى تسجيل أسمائهم في لوح المتصدقين في هذا الشهر الكريم طامعين في عطاء السماء، آملين في فائدتهم هم، وليس فائدة الفقراء. أما رمضان فكريم، وبلا أدنى شك برئ من هذا السفه..