وليد علاء الدين: "مسرح مصر" لا يقل خطورة عن المخدرات

إسلام وهبان

شاعر وكاتب وإعلامي مصري، وُلد عام 1973، حصل على ماجستير الصحافة من كلية الإعلام جامعة القاهرة، حبه للثقافة وانشغاله بالأدب بشتى فروعه وألوانه دفعه للعمل بالصحافة الثقافية العربية منذ عام 1996. ويشغل حاليا منصب مدير تحرير مجلة “تراث” الصادرة من العاصمة الإماراتية أبو ظبي. إنه الناقد والكاتب وليد علاء الدين

تميز “علاء الدين” بغزارة إنتاجه الأدبي وتنوعه، كتب في القصة القصيرة وشعر الفصحى فأبدع، وعشق المسرح فقدم العديد من النصوص المسرحية المتميزة والتي نالت العديد من الجوائز مثل مسرحية “العصفور” التي فازت بجائزة الشارقة للإبداع العربي عام 2007، ومسرحية “72 ساعة عفو” الحاصلة على جائزة ساويرس عام 2015، فضلا عن كتاباته في النقد الأدبي والثقافي، فيما صدرت روايته الأولى “ابن القبطية” العام قبل الماضي.

وليد علاء الدين يتحدث لـ إعلام دوت أورج عن كتاباته وروايته الأولى، وآرائه في عدد من التجارب المسرحية المصرية حاليا، وأزمات الصحافة الثقافية، وإبداعاته المقبلة، وذلك من خلال الحوار التالي:

تعرضت في “ابن القبطية” لقضية الإقصاء بسبب الاختلاف الديني، كيف عالجت الرواية هذه القضية اجتماعيا وأدبيا؟ وما الذي تراه مختلفا في هذه الرواية عن غيرها من الأعمال التي تناولت نفس القضية؟

الرواية لا تطرح حلًا أو علاجًا، إنما تعيد طرح المشكلة، تعيد تجسيدها في صورة جمالية جديدة من أجل إبقائها متداولة في مساحة التفكير والانشغال بها. نحن نعيش في مجتمع يجيد “الطرمخة” على عيوبه، أي التستر عليها ومداراتها وراء قشرة. واختياري لمفردة “طرمخة” مقصود بدقة، فهي وإن كانت مفردة ذات أصل لاتيني Tarmac إلا أنها صنيعة حقيقية لثقافة الستر المصرية، فالكلمة اسم تجاري لمادة مكونة من كسر الحجارة والزفت كانت تُستخدم كطبقة لتغطية الحفر والكسور في الأرصفة والشوارع، فتبنتها المخيلة المصرية ومنحتها المعنى الثقافي الذي يعني بدقة “ستر الفساد ومعالجة العيوب بدفنها أو عدم الحديث عنها”، وما يحدث منذ أجيال أن الطرمخة على فكرة الفرز والإقصاء على أسس دينية في مصر تتم الطرمخة عليه بقشرة خفيفة يتم تصديرها في الواجهة بينما تظل المشاكل الحقيقة تغلي تحتها، ومن لطائف اللغة أن هذه القشرة تأتي دائمًا على وزن “مفاعل” مثل “تصالح” و”تعايش” و”تسامح” وهو وزن يوحي بعدم الاستقرار، ويشي بكم الجهد المبذول من أجل تمثيل الحالة التي يشير إليها أكثر من تأكيد وجودها الفعلي. فالتعايش محاولة للعيش، والتسامح جهد من أجل تحقيق السماح والتصالح محاولة من أجل الوصول لصلح. من هنا تأتي أهمية الرواية بوصفها منتج يتوسل بالجمال من أجل تمرير خطابه إلى القارئ في ممارسة معاكسة تمامًا لفكرة التعايش والتصالح والتسامح، ممارسة تجسيد المشكلة في صورة يمكن التأثر بها والتفكير فيها، صورة جميلة آسرة، الإبداع هو التعبير عن القبح بالجمال لكي ينجح في الوصول إلى وعي القارئ فيظل في بؤرة وعيه وتفكيره، وليس الهدف “الطرمخة” على القبح بالجمال.

لا يجوز لي الحكم على روايتي، ولكن للإجابة على الشق الثاني من سؤالك أقول إن عددًا كبيرًا من النقاد المصريين والعرب  ممن تتسم تجربتهم بالثقة، رأوا أن “ابن القبطية” قدّمت طرحًا جماليًا مختلفًا عن السائد سواء على صعيد الشكل أو على صعيد اللغة، كما رأى البعض أن الحيلة الفنية للرواية من أجل معالجة هذه القضية تعد الأولى من نوعها عربيًا.

إلى أي مدرسة في الرواية تنتمي كتاباتك؟

هذا سؤال توجهه للنقاد، حين أكتب لا أنشغل سوى بضبط إيقاع العمل في حدود تصوري له، أكتب الرواية بأدوات الأديب وروح منهج البحث العلمي، أضع خطة للقراءة في المجالات التي تدعم عالمي الروائي وأصنع ثبتًا بالمفردات والمصطلحات لأتأكد من استخدامي لها بشكل سليم، كان علي أن أقرأ حول مرض الفصام وتاريخه وأعراضه وتطوراته، وكان علي أن أقرأ وجهات نظر مختلفة عن الحشيش وتأثيراته من أجل صنع شخصية “يوسف حسين”، وأن أقرأ كثيرًا في الأديان الإبراهيمية ومقارنة الأديان، من أجل أن أصنع شخصية “راحيل”، أن أقرأ حول عادات وتقاليد المصريين في الفترة التاريخية والمنطقة الجغرافية التي اخترتها لأهل يوسف من جهة والدته القبطية… هذا التأسيس العلمي أو سمّه المعرفي بالنسبة لي ضرورة لا غنى عنها لورايات العصر الذي نعيشه، الذي فقدت فيه المعلومة قيمتها لتوفرها وأصبحت قيمتها الحقيقة تابعة لكيفية غزلها لتكوين رؤية ووجهة نظر.

كيف ترى روايات الفنتازيا وأدب الرعب التي انتشرت بشدة مرخرا؟

داخل معادلة الإبداع كل كتابة مفيدة إذا توفّر لها الحد الأدنى من احترام أمرين اثنين: الأول هو اللغة التي تختار التواصل بها، بمعنى معرفتها واستخدامها بما يضيف إليها. والأمر الآخر هو الفن الذي اختار المبدع أن ينتج فيه، والاحترام هنا استيعاب تاريخ هذا الفن وفهمه، لأن “الإبداع” يأتي من فعل بدع أي أنشأ شيئًا جديدًا، وكيف لمبدع أن يضيف  إلى القديم إذا لم يًلم به؟

أما خارج معادلة الإبداع فكل كتابة مقبولة، شريطة  عدم “التدليس” وهو إخفاء مواصفات المنتَج بما يوقع الضرر بالمستهلك.

من هاتين القناعتين فإنني –وبعيدًا عن ذائقتي الشخصية- أرحب بكل رواية يمكنها أن تجذب قارئها، فالقراءة ممارسة تحتاج إلى مران ودربة، أما الذائقة فغير ثابتة، تتطور بتطور المعارف والعلوم والثقافة، ولا يثبت قارئ الأدب ومتلقي الإبداع –إلا فيما ندر- على مستوى واحد، إنما يتحول كل مستوى إلى عتبة لمستويات أكثر تعقيدًا (بالمعنى المعرفي والجمالي معًا).

قلّما تجد من القراء والكتّاب على حد سواء من لم يبدأ رحلته بمجلات الحكايات المصورة ثم روايات الألغاز والمغامرات، وكتابات الخيال العلمي والفنتازيا، وحتى كتابات الخرافات، أليست ألف ليلة وليلة تنتمي إلى مساحات الفانتيازيا والخيال والخرافات؟ ولكن سرعان ما ينتقل القارئ والكاتب متأثرًا بنمو وعيه وزيادة حصيلته من المعرفة إلى مستويات أخرى من الأدب لتحقق له المتعة الشكلية -أي الجمالية- والمعرفية التي تناسب النمو الحاصل في ذوقه.

إذن الخلاصة في رأيي أن كل كتابة -في الحد الأدنى من شروط اللغة والفن- مفيدة لأنها ترفع من نسب احتمالات تفريخ قراء للأدب الرفيع؛ إذا جاز استخدام هذا المصطلح.

نرشح لك: كتاب منسيون: عادل كامل.. أعمال قليلة وأثر كبير

لماذا تميل نصوصك للمسرح العبثي وتتجلى فيها الفانتازيا؟ وهل يمكن القول بأنك ضد المسرح الكلاسيكي؟

لست ضد أي شكل من أشكال الكتابة التي تجتهد في صنع عالمها الخاص. لكن اسمح لي أولًا أن أخبرك بأنني مقتنع تمامًا بأن الشرط الرئيسي في كل أشكال الإبداع الأدبي بما فيها المسرح (كنص) شرطها التعاقدي الأول وربما الأخير مع القارئ هو “المتعة والتسلية” بعد ذلك يأتي دور الكاتب حسب ثقافته ومستوى اهتمامه الفكري، في بث هذه الثقافة وهذه الانشغالات في ثنايا عالمه الممتع والمسلي، قارئ الأدب بالأساس راغب متعة، وليس ملزمًا بتحملك من أجل قضاياك الكبرى، لذا فإن مسؤوليتك ككاتب أن تفكك تعقيداتك وتذيبها في محلول عالم سحري من المتعة يدعو للتفكير من دون وعظ أو مباشرة وإلا فاكتب مقالا علميًا أو خطبة منبر.

على ضوء هذا الشرط فإن الكتابة الأدبية في عصرنا المذهل الذي نعيشه واحدة من أصعب المهام، لتعدد أشكال “الملاهي” و”التسالي” سواء المبنية على دوافع فكرية لتغذية العقول عبر المتعة أو القائمة على مداعبة الغرائز البحتة لتفريغ العقول والجيوب.

وسط هذه الصعوبة، تتجلى أكثر صعوبة الكتابة للمسرح، لأنها كتابة قائمة على أداة واحدة أو عنصر واحد من أدوات وعناصر السرد، وهو الحوار، أنت تصنع عالمك بأكمله من حوار. هذا الشكل الحواري مع ديكورات بسيطة كان كفيلًا قبل خمسين سنة بجذب آذان الناس وأعينهم واهتمامهم بما يطرح من قضايا والتفكير فيها. ولكن كيف يمكنه أن ينافس اليوم!

تزداد المسألة تعقيدًا إذا كنت مثلي ممن يؤمنون بأن المسرح يجب أن يكون جلسة عصف ذهني داخل شحنة مذهلة من المتعة، الحيلة الفنية في المسرح يجب أن تكون مرهفة وحادة وذكية وممتعة في آن واحد لتستحوذ على انتباه “القارئ” باعتبار المسرح نصًّا و”المتفرج” باعتبار المسرح عرضًا. وهنا تحضر قيمة العبث والفانتازيا. هذا الحديث العملي التطبيقي الذي يمكن أن تضيف إليه قناعتي الشخصية بأن فلسفة العبث هي الأقدر على توصيف حالة الإنسان في علاقته بالحياة سواء أكان راغبًا في الفهم أو في تحقيق أهدافه.

ما كواليس فوز “72 ساعة عفو”، بجائزة ساويرس، وهل الجوائز والمسابقات الادبية المصرية قادرة على مكافأة ودعم الكتاب؟

ليس لحصولي على جائزة ساويرس لأفضل نص مسرحي أية كواليس، أعيش خارج مصر منذ أكثر من عشرين سنة، ولا أتحمس عادة للتعاطي مع منظومة جوائزها، وفي العام الذي حصلت فيه على الجائزة شجعني الأصدقاء الذين قرأوا مسرحيتي “72 ساعة عفو” وكانت لم تصدر بعد عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، على التقدم بها للجائزة، وناب عني صديقي في التقدم بها وكتب رقم هاتفه في استمارة التقديم، ونسيت الأمر إلى أن جاءني منه اتصال يطلب مني حجز تذكرة والحضور للقاهرة بعد 48 ساعة تقريبا من مكالمته لأنني فزت بالجائزة.

عندما عرفت بعد ذلك أعضاء لجنة التحكيم لهذه الدورة، اختفت دهشتي، فقد ضمت اللجنة نخبة من أرقى رموز المسرح المصري إخراجًا وتأليفًا وتدريسًا، منهم المخرجان الكبيران الدكتور عصام السيد والأستاذ ناصر عبد المنعم، والمؤلف الكبير لينين الرملي مثلًا. وهو ما يؤكد قناعتي بأن الجوائز شهادة تقدير تنبع قيمتها من قيمة مانحيها من أعضاء لجان التحكيم. لذلك سعدت كثيرا بهذه الجائزة. وبشكل عام يحتاج الإنسان بطبيعته إلى من يشد على يده أو يُشعره بنتيجة ما يقوم به، هذا ما تقوم به الجوائز، وأفضل ما في الجوائز ذات السمعة الطيبة أنها تلفت انتباه القراء إلى وجود كاتب، وما الذي يرغب فيه كاتب أكثر من قُرّاء؟!

كيف ترى عروض “مسرح مصر”؟

“الضحك من دون سبب قلة أدب” لطالما ردد أهالينا تلك الجملة، التي لا تنم عن حكمة بقدر ما تنم عن عدم قدرة على فهم دوافع ضحك الأبناء، ويرددها كل من فشل في فهم السبب الذي أضحك الآخرين. في الواقع لا يوجد شيء اسمه ضحك بلا سبب؛ فكل ضحكة هي ردة فعل لمسبب تفاعل بطريقة أو بأخرى مع آليات فهم شخص وفق ثقافته ومنظومة مفاهيمه وقيمه فاستدعى منه الضحك. عادة لا يجوز لنا أن نستاء من شخص وجد فرصة مناسبة للضحك فضحك، ولكن هل يجوز لنا أن نفكر معًا كيف يكون الضحك عملًا عظيمًا؟ ننظر إلى التهريج باعتباره فعلًا أو قولًا يخلو من المعنى والهدف، ولا فائدة مرجوة منه سوى الضحك وتمضية الوقت، وهي النظرة التي نسحبها استسهالًا على الكوميديا، وبشكل عام على كل أشكال الترفيه، وكأن الترفيه يجب أن يكون خال من الهدف والمعنى!

بعيدًا عن حقيقة أن الكوميديا هي في الأساس نوع من أنواع المسرح الجاد، الموازي للتراجيديا، والخلاف بينهما أن الكوميديا تنحو نحو التعامل بخفة وبهجة وتختار الأحداث السعيدة. بعكس التراجيديا التي تركز على الكآبة والأحداث المأساوية.  بعيدًا عن هذه الحقيقة التي لا نجد لها أصداء كبيرة في الواقع –العربي على الأقل- فإن هناك العديد من الألوان التي يمكن وصفها بالكوميديا، كلها تقريبًا ينطلق من هدف ويتخذ شكلًا للوصول إليه.

فالكوميديا الهجائية “Satire” هدفها أن تهاجم الأفكار والعادات والأخلاقيات والمؤسسات الاجتماعية بشكل يتسم بخفة الدم أو “الظرف”،  وكوميديا السخرية أو التهكم  (Sarcasm)، أو كوميديا الهزل (Farce) هدفها أن تهزأ بالحياة من خلال ابتكار مواقف عبثية وشخصيات مبالغ فيها، و المحاكاة الساخرة (Burlesque) تقوم على أساس السخرية من الأعمال الفنية الأخرى الجادة فيما يشبه الكاريكاتير،  وكذلك المحاكاة التهكمية (Parody). والكوميديات السوداء أو القاتمة هي أعمال تضع الجمهور في مواجهة حقائق بصورة تجعلهم محتارين بين الضحك والبكاء من أجل الانتباه والفهم. وغير ذلك من ألوان  الكوميديا كل فن منها له معنى ومبنى يختلفان عن معنى ومبنى غيره من الألوان بحيث لا يجوز استخدامه في غير ما يعنيه، أو تجريده من كينونته مع الإصرار على نسبته إلى الاسم ذاته، فكأنك تصر على تسمية عمود الإنارة باسم “شجرة”! إصرارك يخصك وهو لن يجعل من العَمْود شجرة، والخطل هو أن تنتظر منه أن يطرح لك ذات صباح بعض حبات البرتقال!

من حق الممثل أشرف عبد الباقي أن ينشئ فرقة مسرحية تقدم اسكتشات مبنية وفقًا لمفهومه هو ومجموعته عن المسرح والكوميديا. ومن حق آخرين أن يقوموا بذلك أيضًا، كل واحد حسب وجهة نظره وقدرته على جذب التمويل المناسب. ومن حق الناس أن يدخلوا هذه العروض وأن يستسلموا لحالة من الضحك هم في أشد الحاجة إليها.

ولكن ليس من حق دار الأوبرا المصرية أن تستضيف صاحب هذه التجربة في ندوة بالمسرح الصغير بعنوان “الفن والقدوة” وأن تسلمه درع تكريم على مجهوداته في إثراء الحركة المسرحية المصرية!

بالتأكيد، لسنا نرفض أن يحتج أحد العاملين في مجالات الترفيه الفني أو الكوميديا أو التهريج بأن الضحك يمكن أن يكون فقط من أجل الضحك، فالضحك بلا شك يمكن أن يكون هدفًا في حد ذاته، وما أجمله من هدف، أن تكون سببا في ضحك إنسان.

ولا جدال في أن القدرة على استخراج الضحكة من قلب البشر عملية غاية في التعقيد وتتطلب مهارات عالية تفوق المهارات اللازمة لدفع إنسان إلى البكاء، فالأولى تخاطب العقل أو هكذا يفترض، بينما الأخيرة تستدر المشاعر والعواطف.

من قال إن مهارة إضحاك البشر تسير وفق معادلة خطية كالتالي: كلما كانت ظروف الحياة بسيطة كلما كانت القدرة على إضحاك الناس بسيطة، بمعنى أنها لا تتطلب خروجا عن الأدب والذوق؟ لا أعرف. ولكنها تبدو لي معادلة منصفة؛ ففي حياة بسيطة، بمعنى ذات معايير معلنة وعلاقات بين الأسباب والنتائج واضحة، يصبح العقل قادرًا على التقاط الطرافة وفهم المفارقات والتكهن بالعلاقات الضمنية… وغيرها من التقنيات التي يقوم عليها الإضحاك، ولكن عندما تتعقد الحياة؛ بمعنى تغيب المعايير الحاكمة ويصعب الربط بين أسباب ونتائج الأفعال، تتعقد مهمة الإضحاك الذي يخاطب العقل ويلعب على المنطق، وتصعب مهمة المبدعين ويخلو المجال أمام تجار الضحك الذين يستسهلون التحامق والتسافل ومخاطبة الغرائز لاستدراج الضحك من قلوب البشر الذين تحت وطأة ضغوط الحياة وعدم وضوح قواعدها سرعان ما يستسلمون لتلك الجرعات المضحكة ويبحثون عنها تماما كمن يعتادون الراحة الخادعة التي توفرها لهم المخدرات.. طلبتَ رأيي في مسرح مصر: مسرح مصر لا يقل خطورة عن المخدرات.

نرشح لك: كيف تشتري كتبًا دون أن تُعلن إفلاسك؟

هل ما يعرض الآن على المسارح في مصر قادر على إعادة جماهيرية المسرح؟ وما هي أبرز المشاكل التي يواجهها؟

في واحدة من زياراتي للقاهرة ركبت إلى جوار سائق تاكسي، وفور أن ارتحت في جلستي انتبهت إلى أن الرجل مستغرق في الاستماع –بهدوء راهب- إلى أغاني طرب أصيل، اندمجت معه خلال دقائق، ساعدني على ذلك درجة الصوت المضبوطة بحرفية بحيث تتسلل إلى الأذنين، لا تطرقهما، فتشعر معها كأنما الصوت يأتيك من داخلك لا من سماعات السيارة. لم أفلح في كبح جماح فضولي، وكذلك لم أرغب في تفويت فرصة تحية هذا الرجل النادر وسط سائقي المهرجانات والأغاني الشبابية، فقاطعت انسجامه مرغمًا، بتحية لذوقه الجميل في زمن رديء.

قال الرجل محتفظًا بهدوئه: “إن الزمن ليس رديئًا، ولكن الحكومة هي السبب!” وقبل أن أبدي دهشتي لربطه بين تردي الذوق العام وبين الحكومة أضاف: “إن المطربين هذه الأيام لا يستطيعون كسب قوتهم من بيع الشرائط وتسجيل الأغنيات كما كان الأمر من قبل، لأن كل شيء الآن معروض بالمجان على الإنترنت، وليس أمامهم سوى الصالات والحفلات والأفراح والليالي الملاح، وليس أمامهم سوى المنتجين الذين يداعبون ذوق العامة أو يصنعونه وفق أمزجتهم”. وعن الحل في رأيه سألته، فقال: الحل أن تتدخل الحكومة بثقلها في إنتاج فن راقي بسيط يجمع بين روح العصر ومتطلبات الجمهور وتوفره بالمجان وتنشره في كل مكان ليكون منافسًا وبديلًا لهذا الإسهال.

رأيت في رأي الرجل حكمة بليغة، تشبه القول المأثور “أن تُشعل شمعة، خير من أن تلعن الظلام”، فلو أن الحكومة خصصت أنصبة من ميزانيات وزارات الثقافة والشباب -لا نطالب بميزانيات جديدة- وخففت إسهال المطبوعات الورقية المتخصصة في الفن وأخبار أهل الفن التي لم يعد أحد يقرأها، وتوجهت نحو تنفيذ فكرة هذا السائق الحصيف، ورعت برامج حقيقية توفر البديل للظلام، لكان الوضع أفضل -ولو قليلًا- عنه الآن. وفي رأيي أن هذا هو الحل لمشكلة المسرح، على الحكومة أن تتدخل بثقلها –وطلب العون من رجال الأعمال وأصحاب الفضائيات- في إنتاج فن مسرحي راقي بسيط يجمع بين روح العصر ومتطلبات الجمهور، وأن توفره بالمجان على فضائيات منافسة وأن تنشره في كل مكان بتذاكر مريحة ليكون منافسًا وبديلًا لهذا الاستسهال الذي احتكر صورة المسرح.

نرشح لك: آخرهم أحمد خالد توفيق.. هؤلاء تمردوا على أضواء القاهرة

لكونك مديرا لتحرير مجلة “التراث”، ما هي أبرز الأزمات التي تواجه المجلات الثقافية في مصر؟ ولما تتوقف العديد من التجارب بعد إطلاقها بفترة وجيزة؟

الإعلام الثقافي يجب أن يكون من مهام الدول لأن تركه للسوق يُخضعه لتصورات رجال الأعمال ورجال التسويق الوهمية عن متطلبات الجمهور ورغباته، والنتيجة إعلام هابط وصحافة غرائز. على وزارات الثقافة العربية أن تضع تصورًا متماسكًا لمجموعة القيم الكبرى التي يصعب الخلاف عليها، المطلوب تكريس حضورها في نموذجها الثقافي، وأن تدير لتحقيق ذلك منظومة الإعلام الثقافي المطبوع والمرئي وأن تعهد به لخبراء يجيدون المقاربة بين القيمة والترويج، بين التسلية والترفيه والمتعة باعتبارها حاجات ضرورية للإنسان وبين عناصر توفير هذه الحاجات من دون انحطاط أو إسفاف، وكذلك بدون تسلط ديني و فكري أو سياسي وبدون قناعات مغلقة.

لن تستمر مطبوعة ثقافية مع ممول ينتظر الربح مالًا أو علاقات، المطبوعات الثقافية والصحافة الثقافية –وأقصد بها كل عمل إعلامي ثقافي وليس فقط المطبوعات الورقية- يجب أن تدار بالمنطق الذي تدار به الخدمات الكبرى كالصحة والأمن مثلًا، أي أن تكون الصحة والأمن هدفًا وليس وسسيلة للتربح، كذلك ينبغي أن تكون الثقافة هدفًا وليست وسيلة للتربح.

تحدثت كثيرا عن فضول المبدع ورغبته في التميز، فهل الفضول هو المحرك الرئيسي لكتابتك لفروع أدبية مختلفة؟

الفضول عادة ما يكون للفكرة، فضول للمعرفة والتعلم والفضول لا يعمل تلقائيًا، أو لا يصبح مفيدًا إلا إذا كان وراءه “دافع” والحديث عن الدوافع بحر كبير… دوافع الإبداع، دوافع القراءة، دوافع العمل، دوافع الحياة أصلا. فالدافع ممكن يكون مادي أو معنويا.

مع ثلاثي الرغبة والدافع والفضول، يمكن أن تبدأ آلة الإنسان في العمل.. والفارق بين من يعي ذلك ومن لا يعيه أن الأول يتطور بشكل منضبط ويراكم حسًّا وقدرة على نقل هذا الحس، والآخر يتطور بشكل عشوائي

وما هو دافعك للكتابة؟

الحديث عن الدافع الشخصي معقد جدا، يشبه جلسات العلاج النفسي.. في ظني أن الأمر لا يخلو من رغبة التحقق وإثبات التميز والاختلاف، ولكنها طبعا نمت في ظل شروط البيئة التي نشأت فيها، أقصد الأسرة التي تتعدد فيها تجارب الإبداع الكتابي والتشكيلي والأدائي وأقربهم الوالد الذي كان يجمع في تجربته بين التأليف والتمثيل وكتابة القصة والشعر والرسم والخط وغير ذلك، هذه البذور نمت بداخلنا من خلال التربية، وعليه اتخذت رغبتي الشخصية في التحقق بحقل محدد وهو الإبداع بشكل عام.

عندما تصادف الرغبة في التحقق -وأظنها غريزية في كل إنسان- عندما تصادف إطارًا أو شكلًا أو حقلًا منذ سن مبكرة، فإنها تنبت وتبدأ في النمو، حتى لو لم يكن الإنسان واعيًا بشكل كامل لها، فتعمل حواس الإنسان بشكل يغذيها دومًا، هذه التغذية تستغرق وقتها -الذي يختلف وفق شروط كثيرة- إلى أن يصادف “نقطة انبثاق” وهي النقطة التي يصل فيها مخزون الخيال إلى حالة تسمح له بالتعبير أو محاولة التعبير عن نفسه.

تحتاج البدايات إلى رعاية وبعض التوجيه، إذا صادف وتوفرا ولم يسقط الإنسان في فخ فساد المفاهيم الذي يسود المجتمع، فإن آلته تستمر في العمل، وتمامًا ككل آلة يلزمها مدخلات للحصول على إنتاج.

هنا تبدأ اللعبة.. المدخلات تشبه المنهج العلمي، الملاحظة والتأمل، ووضع الفروض والتساؤلات وافتراض حلول ومحاولة اختبارها. يقود كل ذلك الرغبة في التحقق التي اتخذت شكلًا، ولن تهدأ فيظل الكاتب مدفوعًا بفضوله ورغبته في المعرفة ومعالجة قلقه في أشكال جديدة ومختلفة من الإنتاج، وتعمل الحواس في خدمة ذلك وكأنها أجهزة رصد وفرز وتخزين. وتصبح كل كتابة محاولة لتهدئة القلق وطرحه في شكل يمكن مشاركته مع الآخرين، ولا يرضى الكاتب عنه فيعمل على إنتاج غيره، وهكذا إلى أن تكتمل التجربة، والتجارب الحقيقة -في رأيي- لا تنتهي إلا برحيل صاحبها عن الحياة.

ماذا عن إبداعاتك المقبلة؟

دفعت مؤخرًا بروايتي الجديدة إلى الناشر، وننتظر الإعلان عن صدورها قريبًا. وأضع اللمسات الأخيرة على كتاب حكايات “حسن كُفتة” ونص مسرحي يعابث التصورات المتباينة حول أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير.

نرشح لك: الكتب الأكثر مبيعًا في 8 مكتبات خلال إبريل 2018