حسين عثمان يكتب: أزمة تجميد دار "دلتا" ومذكرات عربجي

صحيح أني نشأت في وسط كله عربات وخيول بلدي ومسكوفي، وجو لا تسمع فيه إلا طرقعة الكرابيج وإصلاح الحداوي، ولكن ذلك لم يمنعني أن أنشأ ميالاً إلى الأدب والكتابة والمطالعة وقراءة الأخبار السياسية، فلا أنسى أن أبتاع مع شعير البهائم وبرسيمها جرائد المساء، بل أكثر من ذلك أيها القاريء، طالما فاتني في كثير من الأوقات “زبائن سقع” لانشغالي بالسياسة والأدب في المَوقَف، بينما رفاقي عيونهم متطلعة تصطاد الزبون من آخر الشارع.

نرشح لك: تجميد نشاط دار “دلتا” للنشر والتوزيع

هكذا استهل الفنان سليمان بك نجيب، مذكراته التي نُشِرَت مسلسلة في مجلة “الكشكول”، قبل أن يتم جمعها في كتاب صدر قبل قرن إلا خمس سنوات، ليستعرض من خلالها المجتمع المصري بعد ثورة 1919، من خلال رؤية “عربجي” ساخط، لا يرضيه ما يراه وما يحدث من حوله، حتى أنه يقول في المذكرة الحادية عشرة: “آه لو أتيح لي أن أستعمل بدلاً من القلم كرباجي، إذاً لقدر الله لوجوه كثيرة أن ينزل عليها مفرقعاً في الهواء، تاركاً أثراً أسوداً على خدود ليس للدم فيها أثر”.

تلك المذكرات التي كتبها الفنان ابن الذوات، منتحلاً شخصية سائق الحنطور الأسطى حنفي أبو محمود، لإعطاء مصداقية لما جاء بها من سهام النقد والتشريح لمجتمع علية القوم، فلم يكن مقبولاً ولا مستساغاً وقتها، أن يكون الشاب الأرستقراطي المدلل، هو نفسه العربجي الذي تصدر عنه تلك المذكرات، وسليمان نجيب لمن لا يتذكره، هو الممثل البشوش صاحب الطلة المبهجة في أفلام الأبيض والأسود، ولعل أشهر أدواره العالقة في ذاكرة السينما المصرية، دور الباشا ومشهده الشهير مع نجيب الريحاني في فيلم “غزل البنات”.

أما عن سليمان بك نجيب في الحياة، فقد ولد عام 1892 في أسرة أرستقراطية مثقفة، فوالده كان الأديب الكبير مصطفى نجيب، وخاله كان السياسي الكبير أحمد زيوار باشا، والذي تولى رئاسة وزراء مصر مرتين، وقد حرص والد نجيب على تعليمه وتثقيفه، كما عرفه على الفنون والمسرح، فنشأ محباً لها منذ صغره، ولوالد سليمان نجيب، الأديب مصطفى محمد نجيب، عدة أعمال شعرية ورد بعضها في كتاب “المنتخب من أدب العرب”، وكذلك عدة مؤلفات مطبوعة منها “حماة الإسلام”، وقد أشيع على سبيل الخطأ أن هذه الأعمال هي لسليمان نجيب نفسه.

ويعد سليمان نجيب هو أول فنان مصري يمنحه الملك فاروق لقب “البكوية”، وهو أول مصري يدير دار الأوبرا الملكية بعد تمصيرها، حين عينه الملك فاروق في موقعه هذا عام 1938، بعد أن كانت رئاستها مقتصرة على الموظفين الأجانب، وخاصة البريطانيين منهم، وهو ما كان يدل على قربه الشديد من الملك في هذا الوقت، وقد ارتقى نجيب بدار الأوبرا المصرية، لتصبح واحدة من أشهر دور الأوبرا العالمية، وهو صاحب الفضل في فتح أبواب الدار أمام أبناء الطبقات العادية من الشعب، وبشرط الالتزام بقواعد وتقاليد الدخول الرسمية.

مذكرات الفنان العملاق سليمان بك نجيب رحمة الله عليه “مذكرات عربجي”، أعادت نشرها دار دلتا للنشر والتوزيع منذ نحو عامين، وقدم لها حاتم صادق تلبية لطلب الشاعر الكبير أحمد سويلم مستشار النشر بالدار، تلك المقدمة الطويلة الشيقة التي شاركتكم بعضها في مقالي هذا، وعلى قِدَم مكتبتي الخاصة صاحبة العقود الأربعة، وعلى حداثة عمر دار نشر على مشارف الثلاث سنوات، فإن العديد من إصداراتها المتميزة تشغل مكانها في مكتبتي، ومنها مذكرات سليمان نجيب الثرية الممتعة، والتي حظيت بها ضمن اختياراتي في معرض القاهرة الدولي للكتاب هذا العام.

وهو ما آلمني حين استقبلت صباح اليوم، خبر تجميد نشاطها إلى أجل غير مسمى، والذي يعد مشهداً صادماً جديداً، من مشاهد صناعة تصارع من أجل البقاء هي صناعة النشر، فوفقاً لملف أعدته دعاء عبد المنعم، ونشرته مجلة “الأهرام الاقتصادي”، بالتزامن مع معرض القاهرة الدولي للكتاب في يناير الماضي، فإن حجم هذه الصناعة البالغ 12 مليار جنيه في السنوات السبع الأخيرة، قد حقق خسائر قدرها 100 مليون جنيه، جاءت كنتيجة طبيعية لانخفاض عدد العناوين الجديدة والنسخ المطبوعة منها بنسبة 70%، وخروج 50% من دور النشر من السوق.

ولفت الملف الأنظار من جديد، إلى حجم التحديات التي تواجه هذه الصناعة في مصر رغم انتعاشها عالمياً، وعلى النقيض من عودة ارتفاع معدلات القراءة والاطلاع في مصر في السنوات الأخيرة، ولعل أول هذه التحديات هو غياب المعلومات والبيانات عن حجم هذه الصناعة وواقعها، حتى أن الاتحاد الدولي للناشرين، أقر في أحدث تقاريره المنشور في العام الماضي، أن غياب المعلومات كان أحد أهم أسباب عدم توثيق صناعة النشر المصرية بالأرقام لدى الاتحاد الدولي، وأن الأرقام المتاحة فقط هي ما يتعلق بمعرض الكتاب، وحتى دون أي توثيق من أي نوع.

بينما لخص عادل المصري، رئيس اتحاد الناشرين المصريين، في حواره المنشور بملف الأهرام الاقتصادي، التحديات العاصفة بصناعة النشر المصرية، في ملفات التعويم والتزوير وغياب دعم الدولة، فقد زاد تحرير سعر الصرف من أسعار مستلزمات الطباعة بما يقرب من 80%، في حين تشكل تلك المستلزمات 60% من مستلزمات النشر، وهو ما أجبر دور النشر على تخفيض إنتاجها من ناحية، ورفع أسعار بيع الكتب من ناحية أخرى، وفي نفس الوقت، تأتي السوق الموازية القائمة على تزوير الكتب، وبيعها بأسعار تقل 50% عن النسخ الأصلية، لتزيد من أوجاع صناعة النشر في مصر.

أما غياب دور الدولة، فهو الضربة القاضية المتجددة في كل وقت مع خروج كل دار نشر من السوق، فدعم الدولة البالغ في الموازنة الحكومية الأخيرة 640 مليون جنيه لدعم الثقافة والنشر، لا يستفيد منه سوى 20% من السوق، جميعها مؤسسات ودور نشر حكومية، ومعرض القاهرة الدولي للكتاب لا يتم دعمه ولا رعايته، كما يحدث مع مهرجان القاهرة السينمائي الدولي مثلاً، وتكتمل المأساة بالتعامل مع الناشر كأي تاجر أو صانع من ناحية حقوق الدولة المادية، ودون مراعاة أن النشر صناعة غير جاذبة للاستثمار، ودورة رأس المال بها طويلة الأجل.

تجميد نشاط دار دلتا للنشر والتوزيع، يجعلنا نجدد الدعوة للدولة ممثلة هذه المرة في شخص الرئيس عبد الفتاح السيسي، لمنح ملف صناعة النشر ما يستحقه من اهتمام ضمن ملفات الولاية الرئاسية الثانية، ولعل البداية تكون بإعفاء صناعة النشر من بعض الرسوم أو الضرائب، وتوجيه شرطة المصنفات الفنية نحو تكثيف جهودها لحماية الملكية الفكرية في مواجهة تزوير الكتب، وحتى يتم القضاء تماماً على سوقها الموازية، وتشديد عقوبة المزورين التي لا تزيد حالياً على 500 جنيه غرامة.

أما الأعزاء القائمون على دار دلتا للنشر والتوزيع، الناشر سليمان القلشي، ومدير إدارة النشر بالدار محمد هشام عُبية، وكلاهما يأتي من قلب الكتابة والإبداع، قبل أن يحمل هموم إدارة صناعة بحجم صناعة النشر، فندعوهم ورئيس مجلس الإدارة المحاسب أحمد التلاوي، إلى إعادة النظر في ملف الدار بأكمله، وبدافع الاستمرار، لعل وعسى تعود دلتا إلى استئناف نشاطها ورسالتها، بعد إيقاف مؤقت وارد، وقد تفرضه أوضاع السوق وآلياته، في أي وكل صناعة وليس فقط صناعة النشر، ولكن يظل مفتاح الحل، في أي وكل أزمة مهنية أو شخصية، هو أن نبدأ بالتفكير الإيجابي.