أحمد عليمي يكتب: شارع الباجوري.. الحكاية التي نبحث جميعًا عنها

نقلا عن “المقال”

كتاب جديد بسيرة ذاتية مختلفة.. تتميَّز كتابات السيَر الذاتية بأنها تحكي جزءًا حقيقيًّا ومهمًّا من تاريخ كل منّا، كل سيرة تقرؤها تشعر أنها تتلمَّس جزءًا من حياتك ترى فيها الكاتبُ يضع يده على حكاية عشتها أو رأيتها أو سمعت عنها، وهنا نجد السيرة الذاتية المتميزة فى الصدق والمشاعر «شارع الباجورى» للكاتب والناشر الصحفى سليمان القلشي.

يعتبر الأستاذ سليمان القلشي أحد أهم صناع الصحافة المحلية خلال الأعوام العشرين الماضية، حتى إنه انتقل من الصحافة المحلية خلال السنوات الأربع الأخيرة لتأسيس جريدة «اليوم الجديد»، وبعدها «دار دلتا للنشر»، ولهذا فطبيعي أن نجد سيرة حقيقية لرجل لم يقرر فى أية لحظة خلال هذه السنوات أن يخرج من مدينته التي ظلَّت جزءًا من شخصيته وتكوينه، فعندما يكتب عن مدينته تشعر أنه يصف لك كل شيء من بدايته إلى نهايته، كأنه يرصد شهاداته على مدينة قويسنا وقرية الرمالى بمحافظة المنوفية.

نرشح لك: 17 يناير.. مناقشة “مذكرات شادية” لإيريس نظمي

يأتي الكتاب في 282 صفحة، الصادر عن دار دلتا للنشر، بتقديم للدكتور عمار علِى حسن، الذي قال عنها «إن سيرة الأستاذ سليمان التي صاغها في عفوية ظاهرة وصدق جلي وبلغة محكية تتدفق بلا تكلُّف، هي أيام مصري سعى بكل ما أوتي من حيلة وقوة أن يجد لنفسه موضع قدم في الزحام»، وهذه حقيقة بالفعل، ففي كل سطر فى السيرة ترى أن الأستاذ سليمان، أو «صاحبنا» كما كان يسمِّى نفسى في كل حكاية، يريد أن يكون له دور وبصمة ولا يهتم بالنتيجة، لهذا قرر أن يكون مختلفًا.

تبدأ بداية السيرة بموت الأب، والتي لم يكن يعرف بطلها ما معنى الموت إلا عند رحيله، وكيف تبدأ أسرة مكونة من أم و4 أولاد و3 بنات الحياة بعد رحيل هذا الأب؟ وهنا تظهر واضحةً حكايات قرية الرمالى وكأنها مشاهد سينمائية من حكايات الأم التى تذهب كل صيف إلى القرية بجوار أشقائها الذين على الرغم من اختلافهم التعليمي والثقافي، فإن كلًّا منهم له حكاية مختلفة عن الآخر، إلى إصراره فى مرحلة طفولته على العمل فى فرقة مقاومة الدودة، إلى زفّة الشيخ أحمد (الاحتفال السنوي لأهل القرية)، حتى إن كل مَن في القرية يعيش أجواء احتفالات الزفَّة قبلها بفترة، استعدادًا ليومهم هذا المهم.

ثم ينتقل بنا الكتاب (الذي أهداه القلشي إلى ابنه الصحفي الشاب أحمد سليمان) قائلًا «اقرأ هذا الكتاب جيدًا، فهو جزء مهم من تاريخ والدك»، ويهديه أيضًا إلى أهله في «شارع الباجوري»، العنوان الرئيسي لهذه السيرة، حتى إنه وضع عنوانًا لهم «دنيا شارع الباجوري»، فهو يقرر من اللحظة الأولى أنها حياة ودنيا متكاملة، بها كل التغيُّرات لأهل هذا الشارع، إذ يصفه «إن به سمات تأبى الحصر ومن الصعب العثور عليها مجتمعةً فى شارع آخر، فالشعبية هى الأساس فى الشكل والمضمون، والروح الشعبية مسيطرة على الجميع، والود والتقارب بين أهل الشارع».. صفات إنسانية طبيعية لم يكن أحد بالتأكيد وقتها يفكر أن يأتى اليوم للحكي عنها، ولكنه تغيُّر الزمن الذي جعل الشعبية والود والتقارب سمات كانت علامة على أن هذا الشارع مختلف، حتى إن مهنة سكان الشارع جميعًا واحدة، إذ كانوا جميعًا ملتحقين بالقوات المسلحة، وكل منهم اشترى قطعة أرض وبنى منزلًا، لتبدأ حكايات وصداقات الأبناء.. وكيف كانت تفاصيل ليلة رؤية هلال رمضان أو العيد واستعدادات الشارع كله لمثل هذه المناسبات، ورحلة الكاتب الكبيرة فى العثور على «الشلن» لدفع تذكرة سينما النصر فى قويسنا، وكيف تلقَّى خبر وفاة جمال عبد الناصر حينما كانوا يشاهدون فيلم «معبودة الجماهير» لعبد الحليم حافظ، وتليفزيون الشعب الذى كانت المدينة بأكملها تتابع فيه المسلسلات والأحداث المهمة للدولة.

تبدأ حياة «صاحبنا» في التغيير بدءًا من فترة الثانوية العامة، حيث كان ملتحقًا فى منظمة الشباب، حتى تولَّي وهو في تلك السن «مسؤول ثاني المركز»، حتى أصبح وهو لا يتجاوز الـ18 عامًا عضو مؤتمر المحافظة، إلى أن قرر بعدها بوقت قصير الاستقالة وترك كل ما يتعلق بمجالس الشباب.

ويقفز بنا الكتاب إلى حكايات مختلفة عن شارع الباجوري أو حكايات عن مصر الصغيرة وكيف كان المسلمون والمسيحيون في الشارع كيانًا واحدًا، حتى إن الشارع كان يسمى «شارع الكنيسة»، ويحكى «صاحبنا» كيف أنهم اعتادوا الاحتفال بأعياد المسيحيين وهم يحملون سعف النخيل، ثم ينتقل إلى سؤال مهم كان يدور فى ذهنه: لماذا لا يجد زيجة بين أبناء الشارع؟ إلى أجابت له أخته الكبرى عن ذلك السؤال، وهو أن أهل الشارع كانوا يرضعون على بعض، ولهذا كانوا بالفعل، جميعهم، إخوة.

ونأتى إلى المهمة الصعبة فى الشارع، وهي مباريات الأهلي والزمالك، وكيف كان الزمالك لعنة عليه؟ بينما كان زوج شقيقته الأستاذ «سيد» المحب للنادي واللاعبيين يتزعم المشجعين، جعل منهم محبين للنادي قبل أن يكونوا مشجعين، وعند سؤاله عن سبب اختياره الزمالك، يقول له: «أبوك الله يرحمه دبِّسنا كلنا».

ثم يبدأ «صاحبنا» حكاية جديدة له، وهي قراره الذهاب إلى الأردن في آخر السبعينات، حتى يستطيع توفير المال الكافي للزواج بحبيبته، وعلى الرغم من أنه لم يستطع توفير أى مال فى نهاية الرحلة، فإن كنز الرحلة كان فى حكايتها المهمة فى وصف الغربة وكيف كان المصريون بعضهم مع بعض في الغربة.

ومن منها ينتقل بنا القلشي إلى حكايات عديدة عن فترة التجنيد ورغبته فى أول الأمر فى التجنيد كضابط احتياط، حتى يستطيع براتب الضابط الزواج، فنجد حكايات كثيرة عن فترة الجيش فى حياته، بداية من كلية الضباط الاحتياط فى مدينة فايد، إلى أن ينتقل إلى مركز المشاة بالهايكستب للخدمة به شهرَين، قبل الذهاب إلى دفاع المطارات، وهنا نرى وصفًا جديدًا فى حياة ضابط صغير فى أول الثمانينيات، وكيف كان الوضع وقتها، والأهم كيف لهذا الضابط أن تكون له شخصية وسط ضباط صف وجنود كانت السيطرة عليهم صعبة، إذ كان ينجح فى كل اختبار يتعرض له، إلى أن ينتقل إلى «سيدي براني» للخدمة في دفاع المطارات، وهنا يكشف عن علاقته بزميله الشربينى الذى كان الصديق الأقرب له خلال هذه الفترة، وكيف كانت المقارنة طول الوقت أن كلًّا منهم له هدف مختلف، بينما هو يبحث عن فرصة للزواج، الشربينى كان لا يريد سوى مساعدة أهله وأبيه عامل الطوب الطفلى فى الخروج من الفقر الذى يعيشون فيه، وكان أهم ما فى هذه الفترة هو وفاة الرئيس أنور السادات، وكيف رأى هذه الوفاة على الرغم من اختلافه السياسي مع إدارته، لكن الاغتيال لم يكن الحل لأي خلاف في الرأي.

«شارع الباجوري» كتاب مهم ورؤية حقيقية لفترة زمنية مرَّت بها مصر ومرَّ بها كل مَن عاشوها، هو كتاب يصف مصر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية في سيرة مواطن مصري أحب مدينته وشارعه، فأخرج هذا الكم من المشاعر والحكايات..