"الجوزة".. المفعول مقهور والفاعل مفقود ورصاصتين لا تكفي

 حسين إسماعيل
عام 1971 قدم المخرج حسين كمال فيلمه “ثرثرة فوق النيل” بشخوص ذو خلفية اجتماعية، في ظاهرها سادة مجتمع وفي باطنها أُناس سطحيين فاقدين الأمل بعد نكسة أدت بالبلاد والعباد إلى الحضيض، فكانوا هؤلاء المحبطين رد فعل طبيعي لمجتمع فقد كامل الأمل في أي شيء، لكنه لن يكون أعمق من تيار العبث الذى ظهر بعد الحرب العالمية الثانية أيضًا لشخوص فقدوا الأمل في كل شيء حتى أنهم ادعوا بأن الكون بلا إله.

وفي عام 1991 قدم نفس المخرج فيلمًا أخر قصة من سيناريو وحوار وحيد حامد بعنوان “المساطيل”، تدور أحداثه عن مجموعة من الأشخاص يشتركون في جريمة قتل، أحد هؤلاء الأفراد يعمل بإحدى المحاكم، والأخر عاجز جنسيًا معتقدًا أن في المخدرات شفاء لدائه… إلخ من شخوص الفيلم.

 

 

و هكذا استعار مؤلف النص بعض شخوصه من قصة الكاتب الكبير وحيد حامد ونقلها من وسيط السينما إلى وسيط المسرح، وصاغها في قالب درامي محكم الصياغة يميل إلى السرد والعلاقات المتشابكة شديدة التعقيد، يستطيع المتفرج أن يفك العقدة إذا تتبع الحدث، فكما يقولون: “الأثر يدل على المسير”.
مجموعة من الأشخاص المختلفين اجتماعيًا وثقافيًا يجتمعون بميعاد محدد داخل إحدى ورش الميكانيكة، يتناوبون على شرب مخدر الحشيش إلى أن يصيبهم الملل والإحباط، فيقترح أقلهم مكانة اجتماعية “فتلة” أن يلعبوا لعبة على غرار لعبة الصراحة، والفائز تكون جائزته امرأة، فيعرض أكثرهم ثراء وأعلاهم مركزًا جائزة خاصة، مبلغ 50 ألف جنيه لمن يقول الصراحة ويأتي بالدليل ويقنع الباقيين بحقيقة قصته، وتنظم هذه الجلسة حسب من يأخذ “الجوزة” ويشرب بعض الأنفاس ويقول الحقيقة، وكأن مخدر الحشيش عندما يتغلل في الجسم يجبر العقل على قول الحقيقة.

تتصاعد حدة الحدث، ويُكشف الستار عن ما يخفيه الزمن فينقلب الكبير صغير ويتحول ابن الحرام إلى ابن حلال، وتنتهى المسرحية حسب ما يراه كل شخص، فالجمهور هو القاضي في هذا النص. طلقتان في مسدسين يستطيع الجمهور أن ينهي بهما حياة شخصين مذنبين في هذا العرض يراهم أكثر سوءًا من وجهة نظره.

مؤلف العرض محمد عبد الوارث مع الدراماتورج عمرو شوقي، رسما شخوص المسرحية بعناية شديدة ووضعا لهم خلفيات زمنية ومبررات كافيه لارتكاب أفعالهم المشينة، وتركا الجمهور في حيرة من أمره، يقاضي من يقاضي ويقتل من يريد، من يستحق العقاب أكثر من اللازم؟، هذا سؤال متروك لضمير المتفرج، لكن الجميع اتفق أن “فتلة” ذلك الشاب الذي لم يختار إن يولد ابن حرام هو الأحق بهذا الحياة والـخمسين ألف جنيه عوضًا عما فقده من حنان الأم وما عاناه من قسوة الأب الذي تركه سنين عمره الطوال يعيش في ورشة ميكانيكا.

“الجوزة” عرض مسرحي أحكم صانعه خيوطه الدرامية وأتم ربطها مخرج العرض، وأحسن ممثلينه تجسيد أشخاصه، وما كان من مشاكل في العرض المسرحي هي مشاكل معتادة يتم تفاديها بتكرار ليالي العرض والتدرب الجيد على هوية المسرح الذي يقدم عليه العرض.1

أما بخصوص الممثلين فكان على رأس القائمة الفنان عبد الرحمن القليوبي المتفاني في عمله لأقصي درجات التشخيص، وإحكام قبضته على جميع ملامح شخصية “فتلة”، وما يصاحبها من خفه ظل يخفي تحتها الكثير من التخطيط للوصول للحقيقة، ويحسب له الحفاظ على شخصيته حتى في أحلك لحظاتها الدرامية لا يتخلى عن خفه ظله.

وفي المركز الثاني يأتي دور “عادل” الذي يجسده الفنان محمد الدسوقي الذى أجاد لحظات الصمت مثلما اعتاد إجادة تفاصيل الشخصية سواء في فعلها أو رد فعلها، أو حتى في لحظات الغرور التي انهارت وتحولت إلى توسلات في نهاية العرض.

ويأتي في القائمة الممثل كريم سرور، الذي لولا مشاكل الصوت التي لا تخصه تمامًا لأنه معلوم مسبقا أنه يرتدى ميكروفون ولا يستطيع سماع نفسه إلا من خلال “مونيتور صوت” لوصل في أداءه إلى مراحل أعلى مما كان عليه، وهذه المشكلة يتم تفاديها مع تكرار العروض.
وبالنسبة للممثل نور صالح فأنا بعيدًا عن هذا العرض تماما أراه من الموهوبين الذين لم يستطيع مخرج العرض استغلال موهبته التي اتفق عليها النقاد والجمهور، سواء في مسرحيته “وحش الوراق” أو في “الحضيض”.

يأتي أيضًا في القائمة الممثلين جورج أشرف وإبراهيم أشرف اللذان حاولا بقدر كبير الحفاظ على ثبات انفعالهما، وتفادي المشاكل الموجودة داخل أول ليلة عرض، وحافظا على تركيزهم بشكل كبير أدى إلى ظهورهم في أدوارهم بشكل يليق بكونهم ينتمون إلى المعهد العالي للفنون المسرحية وأنهم قادرين على العمل في أحلك الظروف.

 
عرض “الجوزة” لولا مشاكل الليلة الأولى لاستطعت القول بأنه أفضل العروض المسرحية التي رأيتها تتناسب مع جمهور غير المتخصصين وأصحاب الياقات البيضاء ومرتدي القبعات.