محمد عبده بدوي يكتب: لا تأخذوا التاريخ من برامج التوك شو

يقول جمال حمدان صاحب شخصية مصر: “إن التاريخ هو ظل الإنسان على الأرض”, وعبر مسيرة الإنسان الممتدة لم يكن هذا الظل مستقيمًا ووارفًا بقدر ما كان مراوغًا ومربكًا، فما نعرفه عن التاريخ وأحداثه لم نعشه بحواسنا، إنما انتقل إلينا عبر عقول أخرى غير عقولنا، وظروف أخرى غير ظروفنا، ومن المعلوم بالضرورة أنه لا توجد قراءة غير متحيزة و بريئة للتاريخ بأحداثه وشخصياته، الكل يفسر التاريخ حسب هواه وموقفه وخلفيته واتجاهه الفكري والأيدولوجي، وأن تكون موضوعيًا في قراءة التاريخ هو أمر نادر وفي تقديري مستحيل حدوثه.

في إحدى الندوات التي جمعتني بأستاذي دكتور محمد عفيفي، كان يؤكد لي أننا يجب أن ننظر دومًا للتاريخ نظرة نسبية، فالتفسير المطلق للتاريخ وتصديقه كما هو، ترفضه كل الدراسات العلمية التاريخية الجادة، فللتاريخ وجه آخر أو لنقل وجوه أخرى وروايات عديدة تختلف عن الرواية الرسمية والمدرسية التي تعلمناها طوال حياتنا.

ما أثاره يوسف زيدان مؤخرًا عن شخصية عرابي، ومن قبل عن صلاح الدين الأيوبي وعمرو بن العاص وغيرهم، خلال حواره مع عمرو أديب في برنامج “كل يوم”، يدفعنا للسؤال: “هل يمكن أن نفهم ونعي تاريخنا من خلال تلك المناقشات عبر برامج التوك شو؟

برامج التوك شو تقدم ما يعرف بالتغذية الثقافية السريعة التي تشبه الـ”تيك أواي”، تعتمد على الإثارة والاستعراض والإفيه السطحي دون أي عمق وهذا لا يصلح في معالجة قضايا تاريخية على قدر كبير من التعقيد.

تقول حنا أرنت الفيلسوفة الأمريكية في كتابها الشهير “أزمة الثقافة”: “إن الثقافة المعاصرة تعيش أزمة حقيقية ترجعها إلى عملية إضفاء الطابع الجماهيري عليها، فجمهرتها تعني بالضرورة إعادة إنتاجها وتسطيحها وتكيفها في صورة تصبح مادة قابلة للتسويق أي سلعة ذات استهلاك واسع، فتتحول قصة عرابي مثلًا إلى عنوان مثير على فيديو بأنه لم يقابل الخديوي وأنه كان السبب في الاحتلال الإنجليزي لمصر، فيتم اختزال التاريخ وأحداثه في عناوين مثيرة، وكأننا نريد أن يستقبلها العقل المصري دون وعي و تفكير.

نحن تعودنا كمشاهدين للأسف في عالمنا العربي أن نتلقى معلوماتنا حتى التاريخية منها من برامج التوك الشو، التي هي في الأساس تتعامل مع ما هو فوري وآني، في ظل التراجع المرعب والصادم لمعدلات القراءة في مجتمعاتنا، حتى نكون وجهة نظر في التاريخ وأحداثه – تقنعنا حتى على المستوى الذاتي- علينا أن نقرأ ونقارن ونتعرض للمصادر والوثائق التاريخية، لكن ذلك غير متاح لأسباب قد يكون مرجعها سياسي بدرجة كبيرة، وأيضا نظامنا التعليمي الذي يفرض علينا رواية واحدة هي الصحيحة ولا يعلمنا كيف ننقد ونقارن حتى يكون لنا وجهة نظر ! يتحمل قدرًا كبيرًا من المسؤلية.

في تقديري ينجح التليفزيون كوسيلة إعلامية في التعامل مع التاريخ كمضمون إعلامي من خلال الأعمال الدرامية والتسجيلية، وهناك العديد من الأمثلة على ذلك، فمثلا الأرجنتين ودول في أمريكا اللاتينية أعادت بناء وصياغة هويتها الوطنية من خلال المسلسلات التليفزيونية وما تقدمه من قيم تعكس ما حققته تلك الشعوب.

في ثقافتنا العربية قفزنا قفزة طويلة من الثقافة الشفهية إلى الثقافة التليفزيونية دون المرور بحضارة المكتوب، الكتاب والقراءة هي الحل!

اقرأوا حتى تعوا وتفهموا التاريخ ولا تأخذوه من برامج التوك شو.