القضية 23.. فازت السينما وخسرت فلسطين

محمد عبد الرحمن

(نقلا عن مجلة فرجة)

الانتظار كان مختلفا بكل تأكيد لفيلم “القضية 23” للمخرج زياد دويري، نحن أمام فيلم يعرض لأول مرة في مصر من خلال مهرجان الجونة السينمائي لكنه عبر قبل ذلك على مهرجان فينسيا السينمائي الدولي في دورته الرابعة والسبعين وخرج منه بجائزة أفضل ممثل حصل عليها الفلسطيني كامل الباشا أحد طرفي الصراع في القضية 23 المعروف خارج الوطن العربي باسم “الإهانة”.

انتظار الفيلم لم يكن مرتبطا فقط بقضيته التي لم تتناولها السينما العربية من قبل، قضية الاحتقان المزمن بين اللبنانيين والفلسطينيين المقيمين في لبنان منذ الحرب الأهلية اللبنانية، اللبنانيون –خصوصا الطوائف المسيحية – لديهم حساسية تجاه التواجد السوري والفلسطيني على أرض لبنان، سواء التواجد العسكري السوري لعقود طويلة بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1990 أو معسكرات اللاجئين الفلسطينيين التي ظهرت عبر إعلان دولة إسرائيل وظلت تتمدد حتى أصبحت أمرا واقعا يجعل اللبنانيون الغاضبون يتعاملون مع هذا الواقع معه وكأن أرض لبنان تتحمل بلا ذنب توابع القضية الفلسطينية، وزاد الاحتقان بعد لجوء أكثر من 2 مليون سوري للأراضي اللبنانية بعد أحداث 2011 ليشعر اللبناني الرافض لهذه الظاهرة أنه يسير في شوارع بيروت وسط زحام جنسيات عربية أخرى يعتبرها عبئا على البلد الذي يعاني دائما اقتصاديا وسياسيا وأمنيا، هذا عن السياسة أما السينما فلم تقترب كثيرا من هذه المعضلة، حتى فعلها زياد دويري، من خلال فيلمه الرابع “القضية 23” الذي لا يمكن فصله عن فيلمه الثالث “الصدمة” إنتاج عام 2012 والذي لم يعرض في لبنان حتى الآن، لأن تصويره بالكامل تم في إسرائيل، الأمر الذي ألقى على عاتق دويري تهمة التطبيع التي لا تزال تحمل دويا كبيرا في بيروت حتى وإن ظهرت أصوات وصحف وقنوات تدافع عن التعامل مع الكيان الصهيوني وتعتبره أمرا واقعا وتحلل وتفند في مبررات المُطبع.

تبريرات زياد دويري

من بين مبررات زياد دويري أن فكرة الفيلم لم يكن لتصبح واقعية لو تم تصويرها خارج إسرائيل؛ “الصدمة” يدور حول طبيب عربي يحمل الجنسية الإسرائيلية يفاجأ بأن زوجته نفذت عملية انتحارية في تل أبيب فيسعى لمعرفة الأسباب وكيف خططت وفعلت كل هذا دون أن يشعر بما تحمل في داخلها من أفكار واتجاهات؛ القصة عندما تقرأها بعين منحازة للقضية الفلسطينية ستظن أنها تفسر كيف يحول الاحتلال الإسرائيلي المواطن العربي إلى قنبلة موقوتة أو حزام ناسف حتى لو كان من بين عرب 48 الذين يحملون جنسية الدول العبرية، لكن ورغم أنني لم أشاهد بعد فيلم “الصدمة” أتصور أن الشريط هدفه إدانة الانتحاري والقول بأنه يفعل ذلك بناء على معتقدات خاطئة، لا ردا على سرقة الكيان الصهيوني لدولة كاملة منذ 70 عاما.

الاستنتاج السابق يؤكده “القضية 23″، الفيلم الذي لا ينفصل أبدا عن أفكاره مخرجه زياد دويري وحزب القوات اللبنانية الذي ينتمي له، والذي يرى أن لبنان تحملت الكثير بسبب القضية الفلسطينية وأنه لم يعد مقبولا أن تتحمل أكثر، لكن دويري كمخرج محترف وصاحب أسلوب سينمائي يستحق الإشادة نجح في التعبير عن تلك الفكرة بشريط ممتع يشد انتباه المتفرج منذ الدقيقة الأولى حتى المشهد الأخير، الفيلم يستحق فعلا جائزة أفضل ممثل بمهرجان فينسيا، فقد جسد كامل الباشا شخصية الفلسطيني ياسر سلامة باقتدار كبير، المهندس اللاجئ الذي اضطر للعمل في مشروع أقل من إمكاناته فقط لأنه فلسطيني، الذي يفاجأ بأن أحد المواطنين المسيحيين اللبنانيين يُحمله بمفرده توابع القضية الفلسطينية، ومع ذلك يتعامل مع الصدام بصبر وأخلاق يجبر خصمه لاحقا على قبول انتهاء القضية دون أن يفوز أحدهما على الآخر، رغم ذلك يستحق الخصم عادل كرم أيضا جائزة أفضل ممثل، حيث أصاب الجمهور بالتوتر وهو يرى لبناني مسيحي اسمه “طوني حنا” ينشر العنف والغضب كلما ظهر على الشاشة للثأر من جرح غائر لم يندمل بعد؛ لم يعرفه الجمهور إلا في الثلث الأخير من الفيلم بعدما وصلت القضية لساحات المحاكم واشتعل الشارع اللبناني.

 

ما وراء الفيلم

كيف عرض زياد دويري قضيته من خلال “القضية 23″؟ ، عرضها من أبسط زاوية ممكنة وهو ما يفسر وصولها لقطاع عريض من الجمهور رحب بالصراع الذي رآه على الشاشة قبل أن يتوقف بعضهم لاحقا –وأنا منهم- للتفكير في ما وراء بساطة فكرة الفيلم.

مواطن لبناني مسيحي يعيش في حي مزدحم، يمتلك ورشة ميكانيكا، يرفض طلب زوجته التي تنتظر مولودها الأول العودة لقريته الهادئة، نعرف لاحقا السبب، لكن بدون مقدمات ينشب نزاع بينه وبين مهندس الأشغال الذي يعرف سريعا أنه فلسطيني من لهجته، يتعامل معه بعنف غير مبرر، يضطر الفلسطيني لسبه أمام آخرين، يطلب اللبناني اعتذارا ويُضخم الأمور، يحاول البعض التوسط، ينفجر اللبناني في وجه الفلسطيني قائلا الجملة التي تتكررت عشرات المرات طوال الفيلم “ياريت شارون محاكن عن بكرة أبيكم”؛ جملة صادمة بالتأكيد، لبناني عربي يدعو بالفناء للفلسطينيين جميعا وعلى يد من؟ شارون الذي هو بالتأكيد أجرم أيضا في حق اللبنانيين، والسبب خلاف تبعه “سباب” بعدما رفض اللبناني تدخل موظف الأشغال لإصلاح ماسورة “مزراب” في شرفة منزله!!.

يشكو اللبناني للقضاء في درجته الأولى لكن القاضي – جسده كارلوس شاهين- يتعجب من صمت كلام الطرفين عن التفاصيل، يقول إنه لا يصدق أن المعركة بدأت واستمرت بسبب “مزراب”، الفلسطيني يرفض التصريح بالعبارة التي تتضمن اسم شارون، اللبناني يرى القضاء ودولته منحازة للفلسطيني أكثر منه، يرفض القاضي الشكوى فيذهب “طوني حنا” إلى المحكمة العدلية الرئيسية في بيروت، القاضي سيدة هذه المرة –الممثلة المخضرمة جوليا قصار، محامي مسيحي شهير هو نفسه مسئول قضايا سمير جعجع رئيس حزب القوات يتطوع للدفاع عن طوني حنا، محامية مسيحية شابة تتطوع للدفاع عن ياسر سلامة، نعرف لاحقا أنها ابنة المحامي الكبير وترفض أسلوبه، توازن درامي لم ينقذ زياد دويري وكاتبة السيناريو جويل توما من الانحياز ضد القضية الفلسطينية؛ تتوالي أحداث المحاكمة حتى إن الرئيس اللبناني يستدعي كلاهما لحل الأزمة وديا لكن المواطن المسيحي يرفض(!!) ومع ذلك يقدم يد العون لخصمه الفلسطيني عندما تتعطل سيارته، يقترب الإثنان إنسانيا، لكن المسافة أمام الناس لا تزال بعيدة، نكتشف لاحقا أن المواطن المسيحي نزح من قريته بسبب هجوم مليشيا فلسطينية عليها خلال الحرب اللبنانية الأهلية وأنه أيضا لاجئ لكن داخل حدود لبنان، بل يستدعي المحامي المسيحي مواطنا أردنيا أصيب بشلل بسبب اعتداء فلسطينيين عليه خلال أحداث أيلول الأسود عام 1970(!!)، باختصار يحاكم المخرج زياد دويري الفلسطيينين من خلال شخصية ياسر سلامة ويعطي لأي عربي غاضب من تحمل تبعات القضية الفلسطينية المبرر الكافي للجهر بهذا الغضب حتى لو وصل الأمر لاستدعاء سيرة آرييل شارون.

 

فيلم “القضية 23” يمكن تصنيفه دون مبالغة باعتباره من أفضل الأفلام التي قدمتها السينما العربية في العقود الأخيرة، وقد يجد حظا أوفر في المنافسة على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي خصوصا لو تعامل معه المحكمون الأمريكيون من نفس المنطلق الذي سعى دويري لأن يفرضه على المتفرج من خلال نص تمت كتابة كل عباراته بعناية فائقة.

في فيلم “القضية 23” وبينما المتفرج مشدود للصراع الثنائي بين الخصمين، وينتظر النتيجة، يتسرب إلى ذهنه وأفكاره وجهات نظر لم يسمعها من قبل عن القضية الفلسطينية؛ عبارات مثل “الفلسطينيين ليسوا المظلومين فقط في العالم العربي”، “المعاناة التي تعرض لها الفلسطينيون لا تقل عن معاناة تعرض لها آخرون بسببهم”، فيما الجاني الأصلي، المصدر الأول والرئيسي والدائم للمعاناة، إسرائيل، خارج المعادلة أو بمعنى أدق خارج اهتمامات زياد دويري الذي عاش على أرض الدولة العبرية 11 شهرا لتنفيذ فيلم “الصدمة” لأنه لم يجد بديلا آخر.