محمد عبده بدوي يكتب: الكنز.. واللعب مع التاريخ

قليلة هي الأفلام التي يمكن أن تسكنك وتلامس روحك، تدفعك للسؤال وتحرضك عليه، وتفتح لك أبواب الخيال.

الكنز واحد من تلك الأفلام، فيلم سيعيش معك وبداخلك لفترة طويلة، أفلام كثيرة تموت فور خروجك من قاعة السينما، تنساها وتندم على مشاهدتها، لكن الكنز فيلم صنع ليبقى.

كيف صنع شريف عرفه لنا كل هذا الجمال، وكيف شق طريقًا سحريًا بين الحقيقة والخيال بلغة سينمائية تقترب إلى لغة الشعر! وبعصا ساحر محترف أدار أداء أبطاله باقتدار شديد.

كادرات مرسومة بعناية فائقة هي أقرب إلى لوحات فنيه تثير دهشتك ورغبتك في التأمل في زمن يحاصرك القبح فيه، من صورة المعبد بجلالة وهيبة أركانه لصورة السوق في القاهرة القديمة بصخبه وشطاره، لصورة الصحراء الواسعة الممتدة والسماء الصافية، فقط افتح عينيك على آخرها واقتنص هذا الجمال الذي يفيض به كل كادر.

قبل أن أشاهد الفيلم كنت أسأل  نفسي كيف سينجح شريف عرفة في هذا الاختبار الصعب.. اللعب مع التاريخ؟ والتنقل ما بين أزمنة مختلفه؟ كيف سيمسك بالخيط السحري الرابط  ما بين حتشبسوت وعلى الزيبق ومصر الأربعينيات في فيلم واحد؟ وكل شخصية يمكن لها أن تصنع فيلمًا مستقلًا ، ومن أي زاوية ونافذة سيطل من خلالها على هذه الشخصيات؟  هل سيلتزم بما قاله التاريخ؟ هل سيضيف ويغير؟ وما هي رؤيته الذاتية للشخصيات والأحداث التي اختارها؟ نحن  في النهاية آزاء فيلم فني له شروطه ومنطقه الخاص.

هي معادلة صعبة أتقن مقاديرها بمهارة الرائع عبد الرحيم كمال  بحوار فيه نفس شعري لافت  إلى درجة كبيرة، في كثير من جمل الحوار نجد حضورًا للصورة الشعرية وهي مغامرة تحسب لعبد الرحيم كمال  خاصة أن الجمهور لم يعتاد على طبيعة هذا الحوار من قبل. -من كان بجواري في السينما قالها متسلطنًا: الله على جمال الكلام”-  في حوار دار ما بين حتشبسوت  والمهندس الذي عشقته حينما وصف عيونها.

هذا الفيلم مسكون بروح  الشعرعلى مستوى الكلمة وحركة الكاميرا والموسيقى التي أبدعها هشام نزيه.

في تقديري أن اختيار كل شخصية  يعكس جانبًا من جوانب رحلة البحث عن الكنز، عن لآلئه المستحيلة، والمتعة  تكمن في الرحلة نفسها لا في الوصول للكنز .

الملكة حتشبسوت وحكايتها هي رحلة البحث عن لؤلؤة الحكمة، وعلى الزيبق وسيرته هي البحث عن لؤلؤة العدل وتحقيقه بين الناس، ورئيس القلم  السياسي الذي جسد شخصيته محمد سعد – في اكتشاف جديد لموهبته الفنيه- كان مهمومًا بالبحث عن لؤلؤة القوة والسلطة والحفاظ عليها مهما كان الثمن .

سأل أحد الصحفيين الكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا عن الكتابة حول التاريخ، هل الكاتب من حقه أن يضيف للتاريخ وأحداثه؟، أو يلتزم به وبأحداثه كما هي؟ كانت إجابته من حق الكاتب أن يزيف التاريخ  لو شاء!. مساحة الإبداع والفن واسعة و أكبر من مساحة التاريخ وعبد الرحيم كمال كان مخلصًا ومنحازًا لفكرة الجذور والبحث عنها في تاريخنا، وهو مشروع سينمائي مختلف نفتقده في السينما المصرية.

الكنز هو رحلة البحث عن جذورك عن الأصل -والأصل غالب- عن معنى وقيمة وجودك في الحياه، عن فردوسك المفقود، والتاريخ هو ظل الإنسان على الأرض  وهو الكنز الحقيقي. الكنز.. أن تكتشف أنك  لست وحيدًا.

الكنز أن تشعر أنك امتداد لحكمة آني، وقوة حتشبسوت، وحكايات وملاعيب على الزيبق، والكنز ده تحافظ عليه تسلم.. تفرط فيه تضيع !!