محمد حمدي سلطان يكتب: الحالة العجيبة لعمرو دياب

1- هوس لا ينتهى

الكثير من النجوم، وأنصاف النجوم، وبعض من نطلق عليهم نجومًا تجاوزًا، عندما يطرحون ألبوماتهم الجديدة، أو أغنياتهم ” السينجل ” والتى تأتى دائمًا مصاحبة بدعاية مكثفة، لدرجة إن الواحد منهم بيتفنن فى الظهور فى كل مكان، ظنًا منه أنه بهذا الانتشار سيجعل الناس تلتفت لأغنياته، ويصيبها قدرًا ما من النجاح. البعض الآخر يعتبر مجرد انتشاره إعلاميًا ودعائيًا هو المراد من رب العباد، فهذا منتهى أمله، وأقصى طموحاته، فمجرد تواجده على الساحة يعتبره نجاحًا متكاملًا لا تشوبه شائبة.

على الجانب الآخر يوجد الهضبة عمرو دياب، بنجومية راسخة كالجبال، وبمقاييس نجاح حقيقية تعتمد على رصيد سابق ضخم، ومشوار حافل، وجماهيرية لا حد لها. لم يفعل الهضبة أكثر من طرح بوستر ألبومه الجديد والمنتظر ” معدى الناس ” فرغم أن الألبوم نفسه لم يصدر بعد، إلا أنه وبمجرد طرحه للبوستر بدأت على الفور حُمى عمرو دياب تجتاح الجميع. تلك الحالة التى يعرفها جيدًا محبيه القدامى، ممن عاصروه فى أوج مجده القديم والمتجدد. حالة لم أرٙ لها مثيلاً عند جمهور أى مطرب آخر.

فالأيام القليلة التى تسبق طرح أى ألبوم جديد لدياب، يقضيها محبيه على نار، وسط ترقب وانتظار، ومتابعة مستمرة ويومية لكل الأخبار الجديدة الخاصة بالعمل الفنى المنتظر، تساؤل مستمر عن موعد طرح الألبوم، البحث هنا وهناك عن تسريب ما لأى جزء من أغانيه، وهى ظاهرة وصلت لذروتها فى عام 2003 عندما تم تسريب 4 أغنيات كاملة من ألبوم ” علم قلبى ” قبل صدوره بأيام، مما أجبر دياب على تغيير بعض التوزيعات الموسيقية.

إهتمام يصل لدرجة الهوس، لمعرفة أدق تفاصيل الألبوم، وأسماء فريق العمل المتعاون مع دياب، من شعراء وملحنين وموزعين، رغم أنهم فى السنوات الأخيرة تحديدًا أصبحت أسماءهم شبه ثابتة، ومعروفة مسبقًا. أجواء غريبة، وحالة هوس وشغف تنتاب الكل، رغم علمهم جميعًا بأنها مسألة أيام، ويصبح الألبوم فى متناول أيديهم ” ويا خبر بفلوس ” إلا أنها ظاهرة مستمرة، ولا زالت تتكرر فى كل مرة، وقبل كل ألبوم. ويبدو الأمر وكأنه سباق بين محبى الهضبة على من يستمع للألبوم قبل الآخر.

عمرو دياب نفسه يستثمر بذكاء فى هذا الشغف الجنونى، بتعاقده مع إحدى شركات الاتصالات، لطرح بعض مقاطع من أغنياته الجديدة، قبل نزولها بالأسواق، وعلى من يرغب فى الاستماع إليها ” قبل أى حد ” على حد وصف شركة المحمول، عليه الاتصال برقم هذه الخدمة، بالطبع بمقابل مادى، وهو أمر لا يعيبه على الإطلاق، فهو من أوصل نفسه لهذه المكانة باجتهاده، ومن حقه أن يستفيد من إسمه الكبير ماديًا بكل الطرق والأشكال المتاحة، طالما وجد من يدفع، فالمسألة فى النهاية عرض وطلب.

ودياب هو أول من ابتدع هذا الأمر، وسار خلفه باقى المطربين، فعلها لأول مرة فى ألبوم ” تملى معاك ” ولا زلت أتذكر شكل هذا الإعلان بإحدى الصحف، واستغرابى وقتها من الفكرة، ومحاولتى الفاشلة والأولى والأخيرة للاتصال والاستماع لأغنيات أى ألبوم قبل طرحه، فالصوت كان رديئًا، وربما السبب لأن الاتصال وقتها بالتليفون الأرضى، قبل زمن انتشار الموبايلات القديمة محدودة الذكاء، وماتبعها من هواتف ذكية. شركة مثل ” نوكيا ” مثلا ظهرت، وانتشرت، وتسيدت العالم، ثم اندثرت، واختفت للأبد، بينما دياب ما زال موجودًا على القمة ما قبل ” نوكيا ” وبعدها، فبعد 17 عام، هناك من ما زالت لديه الرغبة فى الاتصال للاستماع لأغنياته الجديدة قبل أن تصدر.

2- أنا أكتر واحد بيحبك

هذه الحالة العجيبة لها أوجه وأشكال مختلفة، فهذا الشغف الذى يسبق طرح الألبوم، يصل لذروته يوم صدوره. وأنا أقصد أن أحدد بدقة يوم صدوره، فجمهور دياب الذى يعانى من كل هذه الأعراض الجانبية، وقت انتظاره لنزول الألبوم، لن ينتظر ليستمع إليه بعد أن يصدر بيوم أو يومين، أو حسب الظروف. ده ما بيحصلش، فهناك حرص شديد، وغريب من نوعه على الظفر بنسخة فور نزولها. وبالتأكيد لدى كل واحد من جمهور عمرو دياب، ذكريات خاصة، ومواقف لا تنسى، مرتبطة بهذا اليوم.

فأنا لا أنسى أبدًا يوم 1 أغسطس 2001 فى هذا اليوم أصدر عمرو ألبومه التاسع عشر ” أكتر واحد بيحبك ” استيقظت مبكرًا يومها، وذهبت إلى مجدى، وهو شاب يمتلك فى منطقتنا محلًا فريدًا من نوعه فهو خليط ما بين ” المقلة ” و ” البقالة ” و ” محل الكاسيت ” كان لديه نفس الهوس والاهتمام بعمرو دياب، وهو ما جعله يتفهم أسئلتى الشبه يومية عن موعد صدور الألبوم، بل كان أحيانًا يتطوع من تلقاء نفسه، ليخبرنى بأى جديد، وهو ما فعله فى هذه الليلة عندما أبلغنى منتشيًا بأن ” شريط عمرو نازل بكرة ”

فى العاشرة صباحًا كنت أمام محله، وكان قد فتحه منذ دقائق قليلة، كما أخبرنى مبتسمًا من مجيئى المبكر، لدرجة أننى أتيت قبل أن يأتى الألبوم نفسه. جلست معه أنتظر، وفى أقل من نصف ساعة، كنا قد أصبحنا أكثر من 10 أشخاص منتظرين ” شريط عمرو ” الجديد. أغلبنا أصدقاء ومعارف، وأبناء منطقة واحدة. جاء الفرج أخيرًا، وحضر الألبوم، استلم مجدى النسخ، علق البوسترات، وضع نسخة فى الكاسيت، وانطلق صوت عمرو يجلجل فى الشارع. اشترى كل واحد منا نسخته الخاصة، ثم ذهبنا بربطة المعلم مع أحد أصدقائنا، الذى أنزل الكاسيت للشارع، وجاء بكراسى، لنقيم جلسة استماع جماعية أمام منزله.

جلسنا وكأن على رؤوسنا الطير، نستمع بتركيز وصمت وانبهار، مع بعض تعليقات الإعجاب، التى تخرج بين الحين والآخر، إلى أن بدأت الأغنية الرابعة ” بعد الليالى ” فاكتمل الجنون، وخرجت الأمور عن السيطرة. كان واحد منا كلما انتهت أغنية، أراد أن يعيد الاستماع إليها مرة أخرى، وهو ما كنا نرفضه جميعًا لأننا نريد الاستماع للألبوم كله. وعند نهاية ” بعد الليالى ” كلنا بلا استثناء، وفى نفس واحد صرخنا ” رجعها تانى “. ومرة بعد مرة حتى اجتذبتنا الأغنية بشكل كامل، وتوحدنا معها، ونسينا بقية الألبوم. بدأت أعدادنا تتناقص، وكأن كل واحد منا أراد أن يذهب لمنزله، لينفرد بالألبوم، بعد حالة النشوة الجماعية هذه. انفض الجمع، وبقيت الذكرى، ومواقف مثل هذه هى ما تجعل عمرو دياب يمثل قيمةً كبرى ومهمة فى حياتنا حتى اليوم.

3- أنا مهما كبرت صغير

بعيدًا عن حالة الهوس عند محبى الهضبة، فعمرو نفسه يمتلك حالة لا تقل غرابةً أو جنونًا. فهو تقريبًا لا يكبر، وما زال محتفظًا بلياقته البدنية والفنية، وملامحه الشكلية، التى تجعله يبدو أصغر كثيرًا من عمره الحقيقى، ليس هذا فحسب، فالأغرب من ذلك، أنك عندما تقارن صور” بوسترات ” ألبوماته القديمة، فى أواخر التمانينات، وبداية التسعينات، بصور ” بوسترات ” ألبوماته الجديدة، ستشعر وكأن عمرو دياب ” بيصغر ” فى السن. فشكله يبدو أكبر فى صوره القديمة من الصور الحالية.

وهو ما يجعله حالة قريبة الشبه من الشخصية الغرائبية ” بنجامين بوتون ” التى قدمها براد بيت فى فيلمه الشهير ” the curious case of Benjamin Button ” والذى كان عمره يسير عكس اتجاه كل البشر، فولد عجوزًا فى مرحلة الشيخوخة، وظل يصغر حتى مات رضيعًا. بالتأكيد هناك مؤثرات لتقنيات حديثة فى التصوير، واستخدام واضح ” للفوتوشوب ” وهو ما يجعل عمرو يظهر بهذا الشكل الصغير فى صوره.

فى نفس الوقت فكل من يراه فى حفلاته يتحاكى عن قوته فى امتلاك المسرح، وانطلاقه، وجموحه كشاب فى العشرين من عمره. وهذا هو الأهم، فما زال عمرو قادرًا على التحمل ” stamina ” كما يقول ” الوشم المرسوم على صدره. فحتى لو كبرت ملامحه، ما زالت بداخله نفس روح الشاب المتمرد، المجنون، الحالم، والشغوف بالمزيكا والنجاح وبكل ما هو جديد. لم يكن عمرو دياب صادقًا فى حياته، مثلما كان وهو يغنى ” أنا مهما كبرت صغير ” فهو يثبت فى كل يوم أنها لم تكن مجرد جملة والسلام، بل هى شعاره الأول والأخير، للبقاء على قيد الحلم والنجاح والحياة.