«تحقيق في الجنة» يسأل عن حور العين الـ 72!

هل من الممكن أن يعرض هذا الفيلم فى العالم العربى بدون غضب المؤسسات الدينية، بل قطاع وافر من المجتمع؟ أشك كثيراً، إذا كان فيلم محايد فى تقديم صورة الداعية مثل «مولانا» أثار تساؤلات واحتجاجات، شعبية واجتماعية، فى أكثر من دولة عربية، فما بالكم بفيلم يدخل مباشرة وبلا مواربة فى مفهوم الجنة والنار، هل هى مادية كما يعتقد بذلك عدد من رجال الدين أم أنها مجازية فى النص الدينى.. «تحقيق في الجنة» الفيلم التسجيلى الطويل للمخرج الجزائرى، مرزاق علواش، استوقفه كيف أن هناك من يتلاعب بهذا المفهوم ويحاول أن يجعله معبراً للحصول على مآرب أخرى، مثلاً تتم الدعوة للاستشهاد فى سبيل الله مقابل الدخول للجنة، وهكذا نجد الجماعات التكفيرية تلتقط هذا السلاح، لإقناع الشباب بالموت بالحزام النسف، لدخول الجنة، التقط المخرج الجزائرى مرزاق علواش الفكرة بذكاء وقرر أن يجعلها نقطة الانطلاق فى فيلمه «تحقيق في الجنة» الذى يعرض فى قسم «البانوراما».

سبق لهانى أبو أسعد، المخرج الفلسطينى، أن تناول غسيل المخ والوعد بالجنة فى فيلمه «الجنة الآن» قبل 12 عاماً وهو الفيلم الحاصل على «الكُرة الذهبية» وكان من بين الخمسة أفلام المرشحة وقتها للأوسكار، مرزاق علواش ليس بعيداً عن تلك المنطقة الشائكة، خاصة أن الجزائر اكتوت بنار التطرف فيما عرف وقتها بـ«العشرية السوداء»، حيث كان المتطرفون يرفعون راية الإسلام، ويقتلون الإعلاميين والصحفيين والمثقفين والنساء، الكل تحت مرمى النيران، ونصل السكاكين والخناجر مُشهر على الرقاب، ولهذا يأتى فيلمه الجديد «تحقيق في الجنة» استكمالاً لنفس الخط بعد فيلمه الروائى «التائب» الذى عُرض 2012 فى قسم «أسبوعى المخرجين» بمهرجان «كان»، إلا أنه هذه المرة يقدمه فى إطار السينما التسجيلية وبرؤية بها نبض ومذاق التحقيق الصحفى البرامجى، حيث إن فريق البحث يبدأ فى رصد كيف يرى الناس الجنة، ومن الذى يدخلها.

فريق البحث يلتقى مع كل الفئات والأعمار مع اختلاف البيئة، ونلاحظ أن أغلب النساء العابرات فى الشارع، والتى حاولت المحققة الحصول منهن على إجابة، لم يتحمسن للتصوير، بينما جاءت إجابة البسطاء وهى تحدد مواصفات الجنة بالمعنى المباشر وليس المجازى، بل وصل الأمر إلى تحديد عدد حور العين برقم 72 حورية، كل ذلك فى محاولة لرصد الحلم المباشر الذى يَعِدون به من يستشهد بالجنة بمفهوم يخاطب الغريزة، وهو بالتأكيد بعيد تماماً عما قصده القرآن الكريم، ولكنها القراءة المتعسفة التى تصنع أمثال «القاعدة» و«داعش» و«نصرة الإسلام» و«أحرار الشام» وغيرها من المنظمات الإرهابية التى تتدثر عنوة براية الإسلام، مثل هذه القضايا، تجد دائماً تحفظاً وتخوفاً من الجمهور فى الخوض بين ثناياها، فهى بمثابة «تابو»، يمنعهم من الاقتراب، المشاهد الأجنبى ربما لا تعنيه تحديداً تلك التفاصيل، ولكن العالم كله يعيش تحت كابوس «الإسلاموفوبيا» دائما هناك حادث إرهاب أو جثث وضحايا وأشلاء تتناثر هنا وهناك، لو تأملت عمق الفيلم ستجد أن البناء الفكرى الذى يقدمه المخرج هو الدعوة لإعادة قراءة الخطاب الدينى لكى نفهم صحيح الإسلام، وهذا لن يحدث بعيداً عن تفنيد الآيات وما تحمله من
معان بدلا من أن نترك رجال الدين يمتلكون وحدهم مفاتيح التفسير، رغم أن الإسلام تحديداً لا يوجد فيه مفهوم ولا توصيف لرجل الدين.

كان السؤال عن الجنة ومن يدخلها؟ فتأتى الإجابة من الشباب المسلم أنها للمسلمين فقط، ولا يمكن أن يدخلها مسيحى أو يهودى، وهذا هو ما يمكن أن تعتبره معبراً عن الأغلبية، لو اتسعت الدائرة وانتقلت لباقى العالم الإسلامى، لن تتغير الإجابة، وأتصور أن المتعصب فى أى دين سيرى فقط أن باب الجنة سيفتح لاتباع دينه فقط، سواء كان مسيحياً أو يهودياً، ولم يكتف المخرج بهذا السؤال، بل انتقل لمنطقة أكثر حساسية: إذا كان للرجل 72 حورية، فما هو نصيب المرأة عندما تدخل الجنة؟!.

الفيلم يمشى على حد السيف، فهو لا يقترب أبداً من العقيدة ولا المسلمات الدينية، ولكنه يحاول أن يحرك ولو قليلاً الفكر الدينى الذى يُصدر للبسطاء، بأن الإسلام يَعِدْ من يدخل الجنة فى العملية الإرهابية بالحور، لتصبح المكافأة مادية ومباشرة.

حرص مرزاق على أن ينقل آراء رجال الدين المتزمتين وعدد من الأدباء والأديبات والمفكرين والشباب والأطفال والكل يتحدث كيف يرى الجنة، من خلال ثقافته ومفهومه الخاص.

ليس دور الفيلم أو هدفه الإجابة عن أى سؤال، فهو لا يقدم نفسه كمتبحر فى شؤون الأديان، لكنه أراد أن يقول بصوت واضح النبرات إن هناك قنبلة موقوتة تنتظرنا جميعاً بسبب هذا المفهوم القاصر للدين، وإن الصراع لن يحسم بقوة السلاح، لأن المتطرف فى النهاية سيضحى بحياته لدخول الجنة، ولهذا ينبغى أن تكون البداية فى الإجهاز على الأفكار الخاطئة فى الدين. مرزاق علواش يضع دائما قضية التطرف الدينى على قائمة اهتمامه الفنى، وفيلمه «التائب»- الذى سبق «تحقيق في الجنة» بأربع سنوات- لم يغفل أبداً هذه الرسالة، وكان يجيب عن هذا السؤال: هل تمحو السنون المعاناة وهل يموت الثأر فى النفوس.. الرحمة فوق العدل، ولكن هل من نعفو عنهم يستحقون بالفعل المغفرة؟!

فى الجزائر وفى عام 1999 أصدرت الدولة قراراً بالعفو عن الإرهابيين، تطلب منهم العودة لمنازلهم والخروج من الجبل إلى الحياة مقابل عدم ملاحقتهم جنائياً.. المخرج «مرزاق علواش» تساءل: هل هم مهيأون لكى يصالحوا الحياة.. الإرهاب كما يراه «علواش» لم يكن حالة طارئة، بل هو عقيدة تعيش فى أعماقهم، وزمن العفو بالنسبة لهم سيتحول إلى مساحة لالتقاط الأنفاس وبعدها يستعدون مرة أخرى للانقضاض على الحياة.

عندما تعفو الدولة، هل يغفر الناس؟ المخرج أجاب عن السؤال، مؤكداً أن الإرهاب فى الصدور وأن الناس لم تنس، كان الإرهاب المسلح فى الجزائر قاسياً ولا يعرف سوى نزيف الدماء وهو يغتال المئات من الأبرياء، إلا أن الوجه الآخر من الصورة أن الإرهابى أيضاً لم ينس ولا تزال فى أعماقه رغبة لكى يغتال ويقتل ويتاجر حتى فى قبور الأبرياء.

نتذكر دعوة «نيلسون مانديلا» فى جنوب أفريقيا بأن يحقق العدالة أولاً، فهو طلب أن يعفو الناس الذين أضيروا من العنف العنصرى، وأن يحصلوا على التعويض لو أرادوا.. العفو ليس دولة أو حاكماً يصدر قراراً ولكن بشراً وقع عليهم الظلم ودفعوا الثمن هم فقط من حقهم المغفرة.. بينما فى الجزائر كما قال «علواش» من خلال الشريط السينمائى «لا تزال النار تحت الرماد فلا الناس تنازلت عن طلب الثأر ولا الإرهابى تراجع عن موقفه».

عاشت الجزائر عشر سنوات تحت مرمى تلك النيران المتبادلة بين قوات نظامية تحاول أن توقف نزيف الدماء وبلد يحترق وتستنزف دماؤه ويدمر اقتصاده ويفقد بنيته التحتية ولا يجنى غير الدمار.

«مرزاق» كانت لديه قناعة مسبقة أحالها إلى فيلم يؤكد استحالة العيش المشترك، المخرج هذه المرة فى «تحقيق في الجنة» يذهب بنا إلى منطقة أبعد وأرحب، وهى كيف أن القراءة الخاطئة والمتعسفة للإسلام، دفعت بكل تلك الدماء، من الشباب، والنزيف لن يتوقف، طالما كثر عدد المتاجرين بالدين، وما أشد حاجتنا فى مصر والعالم الإسلامى لتبنى تلك الدعوة!!