نسمة سمير تكتب: لا تفرّطي مثل "تر تر" فيلفَظك "حسب الله"

يغمض حسب الله “عبد السلام النابلسي” عينيه، ويطبق بأصبعيه الإبهام والسبابة على أنفه فى حركة توحي بالاشمئزاز، ويقبلّ تر تر” زينات صدقي” على خدها، لتغمر السعادة وجهها قائلة “ياختي جماله حلو .. ياختي شبابه حلو” وتخرج فيسرع “حسب الله” بتعقيم الغرفة، وكأنها حشرة ويخشى أن تنقل له عدوى أو مرض، نضحك على هذا المشهد العبقري الذى صاغة الأديب الكبير يوسف السباعي وأخرجه عز الدين ذو الفقار فى لوحة عظيمة لم نرى فيها إلا الكوميديا فقط، ولم نتمكن من معرفة ما وراءها أو ربما لم نريد المعرفة.

أغلقت مصباح غرفتي استعدادا للنوم، فسمعت صوت بكاء، أسرعت بإضاءة لمبة صغيرة بجوار سريري، وجدتها تجلس على المقعد المقابل ترتدي فستانها الأسود المطرز على ظهره اسم “حسب الله”، فنظرت فى عيني، وجهها شاحب وشعرها غير مرتب وكحل عينيها أغرق الهالات الموجودة أعلى وجنتيها، اقتربت منها فى ذهول لتبادرني هي “تر تر، نعم أنا هي”، جلست بجوراها، وسألتها” هل أزعجككِ ضحكي؟!”، فأومأت برأسها موافقة على ما أقوله، تنهدت ووضعت يدها على صدرها “منذ سنوات ويفتح الضحك جرح قلبي ، يرى الجميع فى إهانتي وذلي مشهدا كوميديا، رغم أنه تراجيديا عبثيًا يبرهن على أن التضحية الساذجة تهلك صاحبها، لا تضحكي على خيبات الآخرين بل صلي لهم ليتحرروا من أغلال بلاهتهم، الحب لا يقتل لكن استغلاله يُدمر”، قالتها واختفت.

لمستني، ولمست قلبها المُثْقَلٌ بالجراح، تلك الندبات التى تركت أثرها فى جدار الروح، تتحسسها أناملنا من حين لآخر، نصبح أكثر عصبية، نجد أنفسنا فريسة للضياع، يتلاشى بريق أعيننا حتى نتيه فى متاهات الظلام دون رجعة، يرتجف جسدك وتدمع عيناك، عاري كما ولدتك أمك، علينا أن نعلم أن من يقولون لنا فى البدايات “لن نخذكم .. لن نترك الخيبات تنهش قلوبكم”، يكونون فى النهاية أول من يغرسون خناجر الخذلان فى قلوبنا راحلين .

خطيئتنا هى قلوبنا المَمْلُوءةٌ بالعطاء والحب، فى البداية يطمعون فى بحر تضحيتك فيقتربون ليرتشفونه بأكمله ثم يبحثون عن بحر آخر، فتجد فى النهاية عمرك تحول لصحراء جرداء جف بحرها، ومات به كل شيء حي، وتبحث عن ثوب من المودة تستر به روحك المخذولة لا تجد، تصرخ “لا يمكن أن يخذلونا .. لن يتركوا يدنا المتشبثة بهم”،فكل خذلان خلفه عطاء ساذج لا يعول عليه، والوفاء لا يثبت صدقه ما لم يُختبر، هون على روحك أيها المسكين، فالجميع يرحل حتى روحك ترحل معهم، ويُصلب قلبك تكفيرا عن حبك.

الحب تضحية، لكن هناك فرق بين التضحية من أجل الأحباب، وبين تقديم أنفسنا قرابين لهم، فمن يُفرط مثل “تر تر” يلفظه “حسب الله”، من يضمن صمت الآخرين عندما يدهس قلوبهم لن يرحمهم، فمن كنت مؤنتس بهم سيمنحونك الوحشة، ومن اكتفيت بهم لن يكتفوا بأخذ روحك وسيبحثون عن أرواح آخرى، لن يتذكروا إلا زلاتك ليبرروا بها غدرهم، من يحبك سيضحي من أجلك كما تفعل ولكن من يأخذ فقط لا يحب إلا نفسه، لا تجعل من نفسك وعاء يروى تعطشهم لقهر غيرهم، لا تكن صفحة يَطوُونها وقتما شاءوا بل قلمًا يسطر مصيرهم.

وماذا عن تضحياتنا لهم؟، سيمنحوها لآخرين لا يضحون بل يقبلون الهدايا، المُريدون يمنحون قلوبهم للمحبوب، نعم ولكن المحبوب لا يخذل مُريده بل يرعاه ويكون معه فى كل وقت، فرقوا جيدا بين من يجعلك تفوح بالعطر، وبين من يتعطر بروحك ثم يتركك قنينة مكسورة تجرح من يحاول لملمت شظاياها، لا تمنحهم ما تريده أن يمنحوك لانها صفقة خاسرة، أعلم جيدا أن المنح لا يكون لها مقابل ولا تكون أيضا صدقات فهي نفحات الحب الصادق تزهر فى القلبين فينتج عنها المحبة.

من يتخلى عنك فى شدة لا يحبك، من يستمد من كسرك قوته لا يحبك، من أنت فى حياته فترة مؤقتة لا يحبك، من يتعمد إيذائك لا يحبك، من يستغل عطاءك حتى يحولك إلى بئر جاف مظلم لا يستحق تضحيتك، الحياة لم تُخلق لنموت من أجل مصاصي القلوب ولكن لنحيا مع من يحبونا، من لا يستغلون نقاط ضعفنا، من لا يهددونا بالفراق فنغفو كل ليلة خائفين من الفقد، كما نخاف أن نخسرهم عليهم أن يخشوا بعدنا، يقبضون على أيدينا حتى لو أشواك ، كونوا مع من يسترون أرواحكم .