عاطف إسماعيل يكتب: التوكتوك في مواجهة المدرعة.. هكذا يلعبونها

قبل أي شيء، أوجه التحية إلى رجال القوات المسلحة، وهنا أعني رجال القوات المسلحة على خطوط المواجهة وعلى خط النار وفي وجه المدفع.

تحية خالصة من كل قلبي وجوارحي التي تتألم كل يوم على من يروح منهم ضحية الغدر والخيانة والإهمال والتقصير.

تحية مجانية غير مدفوعة الأجرجهة مقابل إلى إخوتي وأهليهم وذويهم، ولم أحصل مصلحة أو أجلب لنفسي منفعة بالاستمرار في منصب أو تحقيق شهرة أو الاحتفاظ بوظيفة بين أروقة الفضائيات.

تحية خالصة لوجه الله نبعت من إرادتي الحرة التي اختارت أن تنعي شهداء الواجب، لم أتلق أمرا بتوجيهها لهم.

وأخيرا، تحية بعيدة عن التجارة بالدماء لتحقيق مصالح ضيقة لأولياء النعم والحكام. تحية في وقتها خرجت لتنعي من مات وتدعم من يستمر في  القتال وتواسي أهليهم وذويهم.

وبنيما لم يبرد دم الشهداء، بدأت الأذرع الإعلامية الموالية للدولة بكل مؤسساتها في استغلال الحادث والتجارة بآلام الأمهات المكلومات، والآباء الذين يلتهمهم الأسى واستغلال تلك الآلام لمواجهة الانتقادات الحادة التي واجهها الرئيس “الحالي” للبلاد عبد الفتاح السيسي.

وكان استغلال الحادث البشع هذه المرة أكثر إبداعا وابتكارا، إذ تفتق ذهن أحد إعلاميي الدولة عن استغلال دماء الشهداء في مواجهة الانتقادات اللاذعة التي جاءت على لسان سائق توكوك عُرضت في أحد البرامج.

وكانت الفكرة هي “ضرب ثلاث عصافير بحجر”، الأول هو تكريس البرامج المسائية بالكامل للحديث عن الحادث والشهداء وإدانة الإرهاب، وهو ما تمنيت أن يستمر دون استهداف أشياء أخرى.

أما العصفور الثاني، فهو شن حملة مضادة لانتقادات سائق التوكتوك الذي حقق الفيديو الذي ظهر فيه انتشارا واسع النطاق فاق قدرة اللجان الإليكترونية على حذفه من خلال تقارير كانو يرسلونها إلى يوتيوب طلبا لذلك.

وبالفعل، روج أحد البرامج لهاشتاج يقول #أنا_خريج_مدرعة للرد على هاشتاج #أنا_خريج_توكتوك، وهي العبارة التي جاءت على لسان سائق التوكتوك الذي دشنه مستخدمو التواصل الاجتماعي وأصبح من أكثر الهاشتاجات رواجا فيما بعد.

أما العصفور الثالث، فهو تأكيد أن الإخوان هم المعتدون لنرى توجيه صريح من المذيعين ومقدمي البرامج لمن هم على الطرف الآخر للمداخلة الهاتفية إلى تأكيد أن الإخوان هم من قتلوا الشهداء.

ولا عجب أن يصدر عن منصة إعلامية مصرية في هذا الزمان مثل هذه المخلفات الفكرية، كما أنها أيضا تعكس ما تتبناه دولة يحذر رئيسها طوال الوقت من “أهل الشر”، ويحذر منهم مع أن الواقع يؤكد اندثارهم والقضاء عليهم تماما.

كما لن نتعجب أيضا عندما نرى إشارات إلى إثارة الانقسام في خطاب الرئيس المصري عندما يؤكد على ضرورة مشاركة المجتمع في كل شيء، حتىحماية الحدود البحرية (يُرجى الرجوع إلى الخطاب الرئاسي الذي جاء في أعقاب غرق مركب رشيد وغرق 160 مصري)

هذا تزامنا مع حالة صمت وغياب كامل للمعلومات من مصادرها الرسمية، القوات المسلحة، ما جعل الساحة خالية أمام من يريد تحقيق مكاسب سياسية وسط الأوضاع الاقتصادية والأمنية المتدهورة، ومن يريد استخدام الدماء الطاهرة ليرسم صورة أجمل لرئيس البلاد وحكومته.

لم يقتصر الأمر عند هذا الحد، إذ استخدمت صور للشهداء وجثامينهم ومواضع الإصابات بكل دقة عرضها نفس البرنامج، ما يوحي بأن القوات المؤسسة العسكرية تبارك هذا النوع من التجارة بغض النظر عن مدى مهنية والتزام السياق الإعلامي الذي تُعرض فيه تلك الصور، وكأنها تبارك الاتجار بدماء الشباب الذين تفانوا في خدمتها حتى الشهادة.

ويبدو أنها كانت رسالة مسجلة، إذ حاصر عدد من الفضائيات المشاهدين بنفس العبارات ونفس الكلمات ونفس المقارنة بين راكب التوكتوك وراكب المدرعة طوال 24 ساعة، وربما تستمر لمزيد من الوقت.

وهنا أجزم أنه لا دور ولا وجود على الإطلاق ولو لذرة من الأخلاقيات المهنية لدى من تورطوا في ذلك، ولا أرى أيضا دورا لمن يزعمون أنهم مسؤولون في غرفة صناعة الإعلام أو لنقابة الصحافيين، إذ لم ينطق أي منهم ولو كلمة لوم واحدة  لمن يبيع الأرواح الطاهرة مقابل مصالح بعينها.

الأخطر من كل ذلك، هو ما تنطوي عليه عملية المزايدة التي قامت بها بعض الفضائيات من إثارة لفتنة قد لا تموت أبد الدهر بين المواطن المصري والجندي المصري.

فقد لعب إعلاميو مصر المباراة بقاعدة “التوتوك في مواجهة المدرعة”، وأصروا على إثارة فصيل أو بعض الفصائل من هذا المجتمع، الذي يعاني التشرذم بالفعل، ضد كل من يتفوه بكلمة انتقاد أو اعتراض أو احتجاج على الأوضاع، حتى وإن كان المتحدث مطحونا يوشك أن يدخل في جوع طويل أو أشهر عدة دون عمل، أو وفاة نتيجة لنقص في دواء أو لبن أطفال.

فالرسالة من ناحية تثير استياء الكثيرين ممن يقتنعون بمثل هذه الترهات ضد كل من يعترض، ويرونه عدوا وخصما في كل من يشكو من فقر الحال وسط أحزان على خير أجناد الأرض.

أما الرسالة الخفية، والتي لم يتفوه بها أحد هي أن لدى هؤلاء “الإعلاميين” القدرة على خرس كل الألسنة بطريقة مبتكرة ووسيلة جديدة، هي الناس، البسطاء، العامة، المطحونين، الفقراء، المهمشين.

فعندما يتعلق الأمر بتراب البلاد، ودماء الشهداء، فسوف يربط هؤلاء الحجارة على بطونهم ويتحملون الجوع حتى ينالوا ممن قتل الأبناء والإخوة، وهي لعبة أثرية، إذ يمارسها حكام مصر منذ عهد أحمس الأول الذي حرر مصر من الهكسوس، ومنذ ذلك الحين يتمتع الجيش بمكانة لا تفوقها أخرى في قلوب المصريين حتى أصبحت تورث للأجيال الجديدة وتتأصل في جيناتهم.

وها نحن ذا أمام صالة العرض، دون أن يعترض أحد، خاصة أهل المهنة الشريفة التي دنسها كثيرون اليوم، الإعلام، كلنا نقف أمام صالة المزايدات نشاهد ما يحدث.

جميعنا يسمع مدير المزاد يقول:

“دماء طاهرة للبيع مقابل مصالح ضيق، فهل من مشتري؟”

“دماء معطرة بالإخلاص مقابل أموال كثيرة، فهل من مشتري؟”

“أرواح نقية ضحت حتى الشهادة مقابل شهرة ومشاهدات وضجيج، فهل من مشتري؟”

“شباب ضاع فداء الوطن مقابل رضا ولي النعم، فهل من زبائن؟”

نرشح لك-عاطف إسماعيل : فلنحطم الأسطوانة كما حطم إبراهيم الأصنام