ننشر مقدمة الترجمة العربية لـ "فرانك سيناترا عنده برد"

من منا يمتلك الشجاعة؟

طارق عطية (رئيس البرنامج المصري لتطوير الإعلام)

اقتراح جريء لنوع جديد من القصص الصحفي في الإعلام المصري
نشرت هذه المقالة كمقدمة لترجمة كتاب فرانك سيناترا عنده برد التي أصدرها منتدى المحررين المصريين
– هل تعتبر نفسك رائدا؟
– هل تعتبر نفسك قصاصا storyteller؟
معظم المحررين والكتاب سيردون بالإيجاب.

لكن وحدهم الذين يعتبرون أنفسهم قصاصين ورواد يحق لهم المشاركة في هذه اللعبة، ذلك لأن الكتاب المبدعين والحكائين الموهوبين وحدهم سوف يقدرون ما نقدمه هنا حق التقدير.

ودعنا نكون واضحين: أنا أتكلم على كل ذلك من وجهة نظر “صناعة الصحافة”. من داخلها، من قلب غرفة الأخبار، مكاتب الديسك، الاجتماعات الأسبوعية، وغرفة رئيس التحرير.

لكن حذار، فهذه اللعبة لا تناسب إلا المغامرين، القادرين على المجازفة، والحالمين بالكنوز.
فمن أجل إنجاز قصة كهذه..
-بكل هذه تفاصيل
-بكل هذا البحث
-بكل هذه المقابلات.
-بكل هذه الملاحظات وليدة اللحظة.
-بكل هذا الترحال.
-والأهم.. بكل هذه المهارة والموهبة في الكتابة الصحفية.
من أجل إنجاز قصة تستند على كل تلك العناصر.. سوف تحتاج إلى استثمار حقيقي.

tarek-atia
طارق عطية

دعنا في البداية نلقي نظرة على تفاصيل ظهور هذا القصة، قصة “فرانك سيناترا عنده برد”.
نشرت القصة للمرة الأولى في أبريل 1966 (قبل خمسين عاما بالتمام والكمال) في مجلة إسكواير Esquire الأمريكية.

كان فرانك سيناترا وقتها نجما ذائع الصيت، سبق أن أجريت معه عشرات المقابلات الصحفية، وسودت عنه مئات الصفحات بالقصص والأخبار والتقارير.

استأجرت المجلة صحفيا موهوبا- كان قد عمل قبل ذلك في نيويورك تايمز- من أجل إنتاج ست قصص صحفية على مدار عام كامل. نعم. كان عليه أن يعمل على كل قصة لمدة شهرين تقريبا. هذا الصحفي اسمه جاي تاليز.

عندما نشرت القصة، “أحدثت ضجة في طول البلاد وعرضها، وأصبحت رائدة لنوع من الأعمال الأدبية غير الخيالية non-fiction سمي لاحقا بـ”الصحافة الجديدة”، وفقا لمجلة “نيمان ريبورتس” التي تصدرها جامعة هارفارد. وبعد سنوات طويلة- في أكتوبر 2003، وفي الذكرى السبعين لتأسيس مجلة “إسكواير”- اختار مسؤولو التحرير قصة تاليز كأفضل قصة نشرتها المجلة في تاريخها.

547547
الصحفي الأمريكي جاي تاليز

كان سيناترا ذائع الصيت وقتها، لكن تاليز استطاع أن يجلب منظورا جديدا تماما إلى هذا الرجل. كما استطاع أن يكتب قصة من خمسة عشر ألف كلمة تحافظ على اشتباك القارئ حتى السطر الأخير، السطر الشهير.

“ما الذي يجعلها قصة رائعة؟”. وفقا للناقدة ماريا هنسن في “نيمان ريبورتس”: “أستطيع أن أجد في هذه القصة كل المعالم اللازمة في القصص غير الخيالي non-fiction البديع: المشاهد، الحوار، الشخصيات، المونولوجات الداخلية، البداية، النهاية، التنقل، البناء المتكامل الذي يضفي معنى أشمل”. لكنني أتفق معها أن المفتاح الحقيقي يكمن في مهارة إنتاج التقارير reporting، الكتابة الصحفية المدققة، المليئة بالتفاصيل، والمدفوعة بفضول جبار، وكلاهما متوفر لدى تاليز بقدر هائل.
كما سترى بنفسك، يتناول تاليز سيناترا من كل زاوية ممكنة: العمل، الأسرة، التاريخ، الأصول، الطموحات، الأعداء.

بل إنه يتكلم مع مائة شخص على الأقل أثناء عمله على الموضوع. والشخصيات الفرعية التي يقدمها تساعده على سرد القصة بطريقة لا تنسى. أحد أبرز الأمثلة تجدها في الإشارة التلقائية لامرأة تعتني بخصلات شعره المستعارة، والمعلومة الصغيرة عن المبلغ الذي تتقاضاه نظير ذلك.

gallery-1447970850-talese-001

لكن الشيء الأكثر إدهاشا في العمل ككل هو أن فرانك سيناترا نفسه رفض أن يسمح لتاليز بإجراء مقابلة معه. يقول تاليز “الإبداع في الصحافة يكمن فيما تفعل بما هو متوفر بين يديك”. في النهاية، قال تاليز لرئيس تحرير مجلته: “ربما لم أحصل على القصة التي كنا نتمناها- فرانك سيناترا الحقيقي. لكن ربما، بعدم حصولي عليها- وبسبب الرفض المستمر الذي قوبلت به ورؤيتي المستمرة لإمَّعاته وهم يحرسون خاصرتيه- سوف نقترب اكثر من حقيقة هذا الرجل”.
وكل من يقرأ هذه القطعة سوف يتفق مع ذلك.

إذًا، الاستثمار في الوقت، والمال والجهد أتى بثماره بكل تأكيد بالنسبة لمجلة “إسكواير”، ومحرريها، والكاتب جاي تاليز. وفي النهاية أين تجد قصة صحفية نشرت في مجلة ولا زال يُحتفى بها بعد كتابتها بخمسين عاما؟

الآن، فيما يخص عرضنا الجريء للإعلام المصري:
-فكر كيف تكلِّف بكتابة القصة.
-فكر في الميزانية التي تستطيع توفيرها.
-فكر في الوقت الذي تستطيع تخصيصه لكل قصة، كمحرر أو ككاتب.
وبدلا من إدارة “مصنع لإنتاج المحتوى” يعمل فيه عشرات الصحفيين وينتج عشرات الموضوعات الصحفية كل يوم، فلماذا لا تبطئ الإيقاع قليلا بعدد من القصص المختارة بعناية؟
ربما صحفي واحد- أو صحفية واحدة- من غرفة أخبارك يستطيع أن يحقق لك ذلك.
ربما فريق عمل متكامل.
أيا كان الأمر، اختر الأشخاص بعناية، وتولهم بالرعاية والتدريب.
امنحهم الوقت الكافي للخروج بفكرة قصة، ثم دعهم يتابعونها بمباركة من المؤسسة.

spread_sinatra

هذا هو استثمارك:
القصة التي سيعودون بها، سوف تستحق بكل تأكيد أكثر من بضع صفحات في الصحيفة، أو بضع نقرات على الموقع الإلكتروني.
إنها ستصبح ملكية فكرية الخاصة بالمؤسسة، ما سينتج عنه الآتي:
-زيادة إخلاص القراء الذي سوف ينعكس بصورة إيجابية عليك وعلى علامتك التجارية.
-احتمال كبير لإعادة الإنتاج في صيغة كتاب، أو فيلم، أو مسلسل تلفزيوني.
لا بد وأنك قد انتبهت إلى أن صناعة نشر الكتب وصناعة الإنتاج المرئي في هذه المنطقة من العالم تزدهر الآن، أكثر من أي وقت مضى.

لكن كم شخص من أبناء الجماعة الإعلامية التقليدية يستفيد من ذلك؟
ما أقوله هنا هو أن الأعمال الإبداعية غير الخيالية non-fiction، الصحافة الأدبية، هذا النوع من القص، قد يكون إحدى تذاكر دخولنا إلى مستقبل أكثر إشراقا.

عن طريق الاستثمار:
-في الوقت.
-في الموهبة.
-في رعاية الموهبة.
-في النقد الذاتي الجاد، والمناقشة، والتحرير، وإعادة الكتابة، حتى يصبح كل جزء من القصة على أكمل وجه.
إننا قصاصون Storytellers شأننا شأن المؤلفين الأكثر مبيعا، والأدباء، وكتاب السيناريو.
الفارق أننا نعمل مع الحقائق. وكل ما ندعو إليه هو استخدام أدوات وتقنيات الأدب الخيالي من أجل سرد قصص حقيقية.

أدوات مثل:
-الأسلوب (السرد الشيق).
-الشخصية.
-التفاصيل.
-المنطق.
-المفاجآت، التشويق.
-الدقة.
-البناء.
-الصوت.
-اللعب بالكلمات/التورية (إضفاء روح المرح على الكتابة).

sinatra-3-finalll
وبالإمكان تطبيق ذلك على عدة أنواع من الموضوعات الصحفية:
-بروفيلات لمشاهير أو أناس عاديين.
-اتجاهات في المجتمع أو الثقافة أو الاقتصاد أو السياسة.
-أخبار، قصص شخصية، أماكن، ورحلات.
المفتاح يكمن في مهارة الاختيار- اختيار القصة، والصحفي، والمحرر.
فهل أنت مستعد للتحدي؟ هل يمكنك أن تفعل ذلك؟ هل يمكنك أن تقنع مؤسستك أن تدعم أمرا كهذا؟
بينما تفكر في تلك الأسئلة، اقلب الصفحة وابدأ الاستمتاع بهذه القصة. وأنا متأكد أنك ستجد فيها الكثير من الإلهام.