مقال مهم لباحث مغربي عن الإعلام الدولي والطائرة المصرية

(نقلا عن هسبيريس)

“يكاد المريب يقول خذوني”

عبر منشور غاضب في صفحتها على “فيسبوك”، أعلنت الصحافية فينسيان جاكي يوم الجمعة 20 مايو طردها من عملها كمراسلة لجريدة لوسوار البلجيكية في القاهرة، بسبب رفضها تغطية حادثة الطائرة المصرية بأسلوب الإثارة:

“اليوم، لم أعد مراسلة في القاهرة لجريدة لوسوار. البارحة، بعد اختفاء طائرة الخطوط الجوية المصرية بين باريس والقاهرة، طلب مني ألا أقدم مقالا “واقعيا”، وأن أركز على “حزن الأسر”، وأن أتحدث (أشكك) في شروط السلامة لشركة الطيران المصرية. رفضت موضحة أنه لا يمكن الوصول إلى الأسر (رفضوا التحدث إلى وسائل الإعلام)، وبما أن سبب الحادث غير معروف (ونحن لا نملك حتى القرائن)، لا يمكن أن أتهم أو أشير إلى مسؤولية شركة مصر للطيران. اليوم تمت إقالتي. في هذا الوقت الذي يتهم الناس الصحافيين بالكذب، بالتضخيم، بالتجميل، بالتستر على المسؤولين.. وباختصار لا يثقون فيهم، قررت أن أقول لا، وألا استسلم لصحافة الإثارة بازدراء صحافة الخبر وأخلاقها. وكل ذلك إن أردت القول بأجر زهيد.. لست نادمة على ذلك، بل أنا فخورة به. هذا النوع من المطالب من طرفهم، حيث يركز على “التهييج” بدلا من الوقائع، ليس الأول من نوعه، لكن حينما يتعلق الأمر بمواضيع أقل خطورة “كنت أسايرهم”. يجب علينا كصحافيين مستقلين أو غير مستقلين أن نتعلم قول لا، وأن نتذكر بأن كلماتنا، وزوايانا، يمكن أن تكون لها تبعات مدمرة على الأفراد. من الضروري أن نكون أولائك الذين يرممون الثقة المفقودة عند القراء. يبدو أن هيئات التحرير لن تقوم بذلك إلا ناذرا. حياة طويلة لصحافة الخبر”.

هذا المنشور تمت مشاركته أكثر من 42 ألف مرة، وتعاطفت مع صاحبته جمعيات ترصد خروقات الإعلام، مثل منظمة أ.ك.ر.مد(Acrimed) الشهيرة، وتناقلته الصحافة، مما اضطر جريدة لوسوار إلى الرد على أقوال الصحافية المعزولة، ومحاولة نفي تهمها عبر مطالبة القراء بقراءة ما نشرته حول الموضوع.

ما حدث من الصحافية فينسيان جاكي هو عمل جريء ونادر داخل الدوائر الإعلامية في أوروبا؛ لأنها وضعت مستقبلها المهني على المحك، وهو ما لا يخاطر به مهنيو الصحافة العاملين في وسائل الإعلام الأطلسية، لما يعلمونه من سلوك تلك المؤسسات الإعلامية العدائي ضد كل من تجرأ على الخروج عن سياقها العام.

لكن ما تعرضت له الصحافية فينيسيان بسبب جرأتها أكد شيئا مهما يعرفه المراقبون والدارسون لتاريخ مؤسسات الإعلام الأطلسية، هو تناغم سلوك الإعلام مع المؤسسة الرسمية، ودورانه في فلكها بشكل مستمر، كأداة لتطويع الرأي العام؛ مما يجعل مراقبة وتعقب هذا السلوك بوصلة دقيقة لفهم التوجهات الرسمية وأهدافها.

في قضية اختفاء الطائرة المصرية تكشف هذه المعادلة بعض الشبهات التي تحيط بالحادثة، فقد روج الإعلام الفرنسي خاصة والأطلسي عامة بشكل سريع فرضية العمل الإرهابي، نقلا عن المسؤولين، دون التأني إلى حين ظهور العلب السوداء التي تحتوي على تسجيلات الحادثة، ودون التشكيك في الروايات الرسمية التي استثنت بقية الفرضيات الأخرى وانقلبت بشكل غريب على موقفها المتأني عقب الحادثة، إذ صرح رئيس الوزراء الفرنسي حينها بأنه “لا يمكن استثناء أي من الاحتمالات”؛ ليتداركه بعد مدة قصيرة وزير الخارجية الفرنسي جان مارك ايرولت، الذي قال إن الاتجاه العام الذي يصنعه خبراء أمن الملاحة الجوية والمحللون السياسيون يصب في اتجاه الفرضية الإرهابية.

وانتشر بشكل سريع على وسائل الإعلام الفرنسية خبراء يرددون الفرضية نفسها بتوافق مريب. مثل خبير الطيران جيرار فيلدزر، الذي استدعته غالبية القنوات الفرنسية ليردد ما قاله في حوار مع وكالة الأنباء الفرنسية (AFP)، حيث صرح بأن هناك احتمالا ضئيلا أن تكون الحادثة ناجمة عن عطب تقني كبير أو انفجار محرك، أو تفجير داخلي؛ لأن الطائرة A320 التي كانت تقل 66 مسافرا “كانت حديثة نسبيا”، إذ دخلت سنة (2003)؛ وقال إنها تعتبر آمنة، لأنها من بين طائرات المسافات المتوسطة الأكثر مبيعا في العالم، كما أنه في كل 30 ثانية تقلع A320 أو تهبط أخرى، مضيفا: “نحن أمام طائرة حديثة، والحادثة كانت خلال الرحلة في ظروف جد مستقرة”.

وفي جوابه على سؤال حول ما إذا كانت الطائرة أسقطت خلال الطيران بشكل متعمد أو بسبب خطأ قال: “سواء كان عبر إطلاق صاروخ أرض جو، مثل الذي تم الحديث عنه في الرحلة 17 التابعة لماليزيا ايرلاينز، فوق أوكرانيا عام 2014، أو بحر جو مثل الرحلة 655 لإيران إير، التي أسقطت بخطأ من طراد أمريكي سنة 1988 كلها سيناريوهات ضئيلة الاحتمال؛ لأن ارتفاع 37000 قدم بعيد عن الشواطئ..الطائرة كانت بعيدة عن صواريخ أرض جو من النوع المحمول الذي تملكه الجماعات المتطرفة في الشرق الأوسط. صاروخ من الأرض، لا.. لكن أن تكون استهدفت من طائرة خطأ احتمال لا يمكن إزاحته، ولكني أظن أنه سيكون قد عرف”.

وفي تصريحات مشابهة لإذاعة أوروب1 قال المدير السابق لمكتب التحقيقات والتحليل(BEA) جان بول تروادكبان: “مستوى الصيانة ومستوى الطائرة ليسا محل شك في هذه الحادثة”؛ وهو ما يؤكد على حد قوله أن “مصر للطيران ليست في اللوائح السوداء، ولديها تصريحات لدخول أوروبا”، وأضاف: “شمال مصر قريب من ضفة إسرائيل وقطاع غزة، وهو ما يشكل المكان الأكثر مراقبة في العالم، وبما في ذلك عبر الأقمار الصناعية، ومن الصعب إخفاء مثل هذا الأمر كما أن هذا السيناريو يظهر صعبا جدا”.

وركز الخبيران على الدفع بفرضية العمل الإرهابي، إذ زعم تروادك بأن الحادثة كانت سريعة، معللا ذلك بعدم توصل المراقبة بأي رسالة استغاثة من ربان الطائرة؛ وهو ما اتفق مع طرح فيلدزر، الذي رجح العمل الإرهابي، لأن الأعطاب التقنية الطبيعية والحرائق بحسب قوله لا تؤدي إلى حادثة سريعة، ويكون للطاقم الوقت للقيام برد فعل.

إن هذا الطرح الذي بات مسلما به بسبب التكرار والإجماع المزعوم بين الجهات الرسمية والخبراء المرضي عنهم إعلاميا، بالإضافة إلى الجرعات المكثفة من التقارير التي تعتمد الإثارة والطابع الانفعالي، الذي تمردت عليه مراسلة جريدة لوسوار، يروم إزاحة بقية الفرضيات التي لا تقل جدية. فقد اعترف خبير الطيران جيرار فيلدزر بحادثة إسقاط طائرة إيران اير سنة 1988 بعد أن استهدفتها نيران طراد أمريكي، قيل إنها بالخطأ، وقلل من شأن إعادة تكرار مثل هذا السيناريو باستهدافها خطأ من طائرة بحكم الارتفاع، وبحجة أنه سيكون قد عرف!!

إن استبعاد الأسباب الخارجية للحادثة، والتي قد تتورط فيها جهات مثل الناتو أو الولايات المتحدة الأمريكية التي يستقر أسطولها السادس في مكان غير بعيد عن المنطقة التي سقطت فيها الطائرة لا يهدف إلى إبعاد التهمة عن الناتو فقط، بل إلى التركيز على فرضية الإرهاب، لتبقى مصر وحدها المتهم الوحيد بعدم القدرة على تأمين طيرانها في مواجهة العمليات الإرهابية، وهو ما حاولت جريدة لوسوار دفع صحافيتها المعزولة إلى التركيز عليه بشكل مشبوه، دون الاعتماد على أي دليل مادي يثبت هذه الفرضية، أو التأني إلى حين الوصول إلى العلب السوداء وحطام الطائرة، لدراسة أسباب سقوطها.