البراء أشرف يكتب: ليل - خارجي

تكريماً وتقديراً للكاتب والمدون الراحل البراء أشرف، يعيد إعلام.أورج كل جمعة نشر أحد مقالاته حتى نهاية عام 2015

الأشقياء فقط، والأتقياء أيضاً، يعرفون معنى قضاء ليلة خميس في وحدة خلف شاشة كومبيوتر في محاولة لكتابة أي شيء بدون هدف.

الأشقياء فقط، والأتقياء أيضاً، يترقبون ليلة الخميس من الأسبوع إلى الأسبوع، ويعلنون صباح كل جمعة، أن لديهم خططاً جديدة لقضاء مساء خميس مقبل، بشكل مختلف عن شكل الليلة السابقة..

الأشقياء، وأنا لست منهم، والأتقياء، وأنا أكتفي بمعرفتهم من بعيد.. سيستمرون في قضاء ليالي الخميس خلف الشاشات، ينقرون بشكل منتظم، في محاولة للكتابة، دون هدف.. لكني لن أفعل.

الطريق من المكتب إلى كورنيش المعادي ليس طويلاً كما كنت أتخيل، حتى وإن كان طويلاً، فهذا لا يعني أنك ستصاب بالتعب إن قررت اتخاذه على قدميك وتجاهل التاكسيات على اليمين والشمال في سرعة بطيئة ومحاولة لإغراءك بالإشارة والركوب.

الطريق من المكتب إلى الكورنيش يشعرني بأنه منحدر لأسفل بشكل سحري، أكاد لا أشعر بالمسافة، أخرج من الباب، لأكد نفسي – فجأة – أتنفس هواء الكورنيش بصدر مفتوح.. بعض الطرق تنحدر لاسفل، بحيث تجبرك على السير فيها.. قليل من الفلسفة سيجعلني أشبه الطريق من المكتب إلى الكورنيش، ببعض الطرق التي مشيت بها في حياتي فقط لأنها تنحدر لأسفل ولا تحتاج مجهوداً – أو هكذا ظننت – للسير فيها كل مساء.

أخرج من المكتب، أحرص على ترك حقيبتي بأعلى، أريد أن أستمتع لدقائق بمرجحة يداي بجوار جسمي، أشعر أنني رشيق، وأنني فقير، فقير جداً، العرق، والسير في الشوارع المظلمة، والتي تمرق فيها السيارات الحديثة بسرعة، كلها أشياء تشعرني بالفقر، أنا الآن فقير، ورشيق أيضاً، مرجحة يداي تمنحني شعوراً بالسعادة، كأني سأنطلق الآن، وأملك القدرة – فجأة – على الطيران.

………

أريد أن اتحدث مع أحدهم..

لا أعرف على وجه التحديد اسم الشخص الذي أحتاج للحديث معه الآن، ولا أعلم حتى موضوع الحديث، لكني أعرف أنني حين أشعر بالسعادة – أو الحزن – تمتلكني رغبة لا نهائية في الكلام، أي كلام، على أن أجد من يشاركني فيه..

أصارحك القول، في مساءات ماضية كثيرة، وحين شعرت في بعضها بالفرح الشديد، وفي بعضها الآخر بالحزن الشديد، جربت، أكثر من مرة، أن أفتش في لائحة أرقام الأصدقاء على تليفوني، لأكتشف، أن معظمها لا يرد، وأن عدداً منهم قرر قضاء ليلة الخميس في “ربما يكون مغلقاً”، وأن البعض، مثلي، يحتاج إلى الحديث مع أحدهم، وقد تمكن من تحقيق أمنيته، ولهذا فإن صفارة خاصة تخترق أذني من سماعة التليفون لتأكد أن الطرف الآخر مشغول.

أتحدى الظروف، وأقرر أن الوقت يحتاج إلى “أحدهم” لأتحدث معه، أقرر أن أكلم أي شخص، أمي، أبي، أي أحد.. أسأل الأسئلة العادية الغبية، “عاملين إيه.. نتيجة رحمة طلعت.. هتروحي عند تيتة بكرة.. هتروحي الساعة كام؟”، الحقيقة أن لا أحد يصدني، يخبروني بأن نتيجة رحمة ظهرت منذ شهر، وأنهم أخبروني بها أربع مرات على الأقل.. وتخبرني أمي بأنها ستذهب لـ”تيتة” لأنها تفعل ذلك كل جمعة، وأنها ستكون هناك – كما أعرف – في الواحدة ظهراً.

أستمر في إجراء المكالمات الغبية، أكتشف أن الوقت أصبح متأخراً فجأة، وأن بعض المكالمات أصبحت غير مسموحة، خاصة تلك التي استهدف فيها صديقات وزميلات من أزمنة وأمكنة مختلفة، في المرة الأخيرة أخبرتني زميلة بشكل مهذب.. “أنا م بستقبل مكالمات بعد الساعة 11″، وقد كنت – لفرط غبائي – أتصل بها في الثانية إلا عشرة صباحاً.

سأصل إلى الكورنيش إذن بسرعة، ستضيع جرعة الحزن – أو الفرح – دون فائدة، هل أصبح هذا العالم بخيلاً جداً لدرجة أنني لا أستطيع إجباره على منحي شخص واحد جدير بان أتحدث إليه قليلاً في أمور غاية في الأهمية كالفرح أو الحزن.

أستطيع أن أجزم الآن بأني – مثل أي شخص آخر – لا أستطيع إجبار العالم على فعل أي شيء، كما أني لم أنجح في إجباره في المرات الكثيرة السابقة، كما لم ينجح أحد.

أقرر أن الخطة البديلة تحتم علي أن أسلك طريقاً بديلاً، بأن أسير داخل المعادي قليلاً، بموازاة الكورنيش، قبل أن أقرر الإنحراف يساراً في أي شارع جانبي يصلني إلى طريق الكورنيش، في هذا إطالة للطريق والمدة، ومحاولة لإبقاء نفسي داخل الحالة الجميلة، الحزن، أو الفرح.

لا أزال أحرك يداي بشكل منتظم، أستمتع بمراقبة نفسي أتنفس، أتدخل بإرادتي لتنظيم أنفاسي، أسحب الهواء الساخن داخل صدري حتى يمتلئ، وأفرج عنه زفرة واحدة، أكتشف أني صحتي ليست على ما يرام، فلم أعد أستطيع تكرار الحركة مرات عديدة.. أكتشف أن موبايلي يدق.. أحدهم يبحث عني.. أحدهم قرر أنه يحتاجني.. أدقق النظر إلى الرقم.. أفهم أن الحاجة المطلوبة مني شيء من إثنين.. “هات برتقان معاك عشان مليكة”، أو “بعت الميل ولا لسه؟”..

نقلاً عن مدونة “وأنا مالي”

اقـرأ أيـضًا:

البراء أشرف يكتب: عن السلاحف والأرانب

البراء أشرف يكتب: ستة أسباب للحنين إلى “روبي”

البراء أشرف يكتب: عن الاضحاك كمسألة سخيفة

محمد عبد الرحمن يكتب : أستاذي البراء أشرف

وفاة البراء أشرف

.

تابعونا علي تويتر من هنا

تابعونا علي الفيس بوك من هنا