عمرو منير دهب يكتب: مصداقية العقد الاجتماعي.. الفصل الثالث عشر من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"

باستخدام فكرة العقد الاجتماعي بمعناها العريض، بعيداً عن قيود النظرية المرتبطة بالفلسفة الأخلاقية والسياسية، وليس بالضرورة باقتفاء ما كان يريده جان جاك روسو في كتابه الشهير، نحاول هنا امتحان الصدق في ضوء ما يتواضع عليه الناس من عقد اجتماعي/أعراف/تقاليد في أي مكان وأي زمان.

ذلك امتحان عسير للصدق لا ريب، وهو في تقديري أقرب إلى أن يفضح نفاقنا من أن يثبت أية محاولات جادة لنا لتحرّي الصدق. لكن بتقييم أقرب إلى الموضوعية، سيسلمنا ذلك على الأرجح إلى الوقوف على الصعوبة البالغة (الاستحالة؟) للاتفاق على مفهوم الصدق، خاصة لدى محاولات التطبيق على أي نطاق في أي مجتمع.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: معيار الصدق.. الفصل الثاني عشر من كتاب “كل شيء إلا الحقيقة”

يقول الفيلسوف الفنلندي أُولي لاغرسبيتز Olli Lagerspetz في كتابه “الثقة والأخلاق والعقل البشري” الصادر عن منشورات ابن النديم بوهران ودار الروافد الثقافية ببيروت سنة 2021، ترجمةً للطبعة الإنجليزية بعنوان Trust, Ethics and Human Reason، يقول: “في مقالته Nature and Convention (الطبيعة/الطبع والعرف) يقترح بيتر وينش Peter Winch ما بات يُعرف لاحقاً بـحجة شكل-الحياة لأجل الصادقيّة. حيث يجادل بأن مفهوم المجتمع الذي توجد فيه لغة ما – لكن لا يُعتبر قول الصدق فيه هو المعيار – هو مفهوم متناقض ذاتياً. حتى لو كان بإمكاننا أن نقول لشخص ما كذبة في حالة فردية، فإن ما لا يمكننا تخيله هو لغة فاعلة لا يُفترض فيها مسبقاً معيار الصادقية بشكل عام. وبالتالي فإن الالتزام بمعيار الصادقيّة لا ينفك عن التمييز بين التصريحات الصادقة والكاذبة؛ فمن دون أحدهما لا يمكن أن يوجد الآخر. إن إمكانية استخدام التواصل بشكل مخادع، كما في حالة لعبة الورق بين لاعبين عديمي الثقة على نحو متبادل، تفترض مسبقاً خلفية من الممارسات يكون فيها عدم الخداع هو المعيار”.

للاقتراب أكثر من تقييم الصدق في إطار الحياة الاجتماعية نسترسل مع لاغرسبيتز في معرض موازنته بين حجتي وينش وكانط وذلك في ضوء أطروحة أسبق لإيمانويل كانط: “إنه من خلال قول كذبة ما، بقدر ما كانت كذبة في نفسي، فإنني أتسبب في أن تفقد التصريحات بشكل عام أي مصداقية. لا يمكن تحويل الخداع إلى ممارسة مقبولة بشكل عام، لأن ذلك من شأنه أن يلغي إمكانية الوعد كليّاً”.

يواصل لاغرسبيتز في السياق نفسه: “من دون وجود معيار الصادقيّة لن تكون هناك تصريحات لنبدأ منها. إن الصادقيّة والتواصل يأتيان في حزمة واحدة: الرغبة في التواصل هي الرغبة بشكل عام في التواصل بصدق… عندما نفكر في خطاب عقلاني يجب أن نفكر في النهاية في الأشخاص الذين يخاطبون بعضهم البعض والذين يحاسبون بعضهم بعضاً على ما يقولونه ويفعلونه. إن فكرة الاختلاف ذاتها بين الصدق والكذب، التي هي قوام الفكر العقلاني، مرتبطة بالحياة الاجتماعية حيث يكون كلامنا محل اعتداد… يجب علينا أن نفترض مسبقاً وجود حياة اجتماعية يكون فيها الناس مسؤولين أمام بعضهم البعض. في حياة من هذا النوع، أن تقول شيئاً ما يعني أن تؤيده أو تتحمل اللوم أو السخرية إذا لم تستطع. أن تكون عقلانياً يعني أن تكون شخصاً يمكن أن يلتزم بكلماته، ومن خلالها، بكلمات من تتكلم معهم. هناك ترابط بين العقلانية والصادقية والأخلاق؛ توجد العقلانية بين الفاعلين في شكل ممارسات اجتماعية مشتركة”.

يسترسل بعدها الفيلسوف الفنلندي المعاصر في تناول “التواصل، الصادقية، الثقة” في الفصل السادس من الكتاب عبر استعراضه وتحليله لآراء أكثر من فيلسوف ومفكر ولاهوتي. لكن على وجه العموم، إشكالية مصداقية أي عقد اجتماعي من أي قبيل لا تبدو مختلفة على كل حال عن إشكالية الاتفاق على المقصود بالصدق، فالمسألة مراوِغة بما يتجاوز توقعاتنا المثالية المسبقة، لكن الأدهى هو ما يتعلق بتحديد تجليات الصدق الاجتماعي على الواقع، وهو تحدٍّ يتضاعف عندما يتعدّى الواقع – موضوع الدراسة – العلاقةَ بين فردين أو طرفين إلى العلاقات المتشابكة بين أفراد المجتمع قاطبة. وعلى صعيد علاقة أيٍّ من الناس مع المجتمع، تبدو مصداقية العلاقة متجسّدة في قبول المجتمع للفرد وأفكاره نزولاً على قواعد المجتمع المفروضة مسبّقاً أكثر مما هي (المصداقية) مؤسسة على معيار مطلق – أو حتى نسبي في إطار جغرافي أو زماني معين – للصدق.

وإذا كنّا قد رأينا من قبل أنه لا يوجد معيار مطلق للصدق كما نحب أن نوهم أنفسنا في العادة، فإن تحدّي مصداقية العقد الاجتماعي لا يكمن فقط مع النسبي قياساً إلى المطلق، وإنما يتجسّد ذلك التحدّي أيضاً – وبصورة أساسية – في مهارة تمرير الفرد لأفكاره ومشاعره (ولنفسه مجملاً) بنجاح في المجتمع. فكما هي لعبة القانون لدى المحامي البارع، إذا استطعت أن تفلت من العقاب (ومن المحاسبة ابتداءً) فأنت بريء. كذلك فإن من يفلح في إيهام المجتمع بكونه صادقاً فهو الصادق في عرف ذلك المجتمع. من المهم ألا ننظر إلى المجتمع والحال كتلك على أنه يقع (أحياناً أو كثيراً) ضحية كذابين بارعين يستطيعون إيهامه بصدقهم، فالمجتمع نفسه يصادق على تلك اللعبة عندما يغض الطرف عادة عن التدقيق في محاسبة من ينعم عليهم بتيجان الصدق مكتفياً، بل محتفياً، بقبول أولئك المكرّمين النزولَ على قواعد المجتمع حتى إذا كانوا محتالين في تطبيقها.

والحال كتلك، تبدو المجتمعات كما لو كانت مؤسسات كبرى تقبل توظيف المتقدمين إليها بشهادات أكاديمية وعملية مزوّرة ما دام التزوير يتم ببراعة ولا يلتفت إليه أحد، أو لا يستطيع أن يحاسب عليه أحد. ولكن من الجدير الانتباه إلى أن تحدّي مصداقية العقد الاجتماعي/الأعراف/التقاليد أشدّ تعقيداً بكثير من اكتشاف شهادة خبرة عملية أو أكاديمية مزوّرة، فمع أي عقد اجتماعي لا تبدو معايير الصدق نسبية ببعض الضبابية والغموض فحسب وإنما متغيرة ومتناقضة في كثير من الأحيان.

مصداقية العقد الاجتماعي إذن مرتبطة إلى أقصى الحدود بالرضا أكثر من ارتباطها بالصدق مطلقاً أو نسبياً، فنحن صادقون اجتماعياً عندما يُنعم علينا المجتمع برضاه وليس عندما يحاكمنا أخلاقياً بعد كل معاملة اجتماعية أو عملية ويصدر علينا حكمه بالبراءة.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])