عمرو منير دهب يكتب: معيار الصدق.. الفصل الثاني عشر من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"

لا يمكن الإفلات من غواية “المطلق” على أي صعيد، فعلى الرغم من أن “نسبية كل شيء” تكاد تكون الحقيقة المطلقة الوحيدة كما أشرنا من قبل، فإننا لا نكفّ عن الاستجابة لرغباتنا العميقة في ملاحقة الأفكار والمشاعر المطلقة، ليس فقط على سبيل الحلم بكون تحقيقها ممكناً بل بما يقارب الإيمان “المطلق” بكونها متحققة وما علينا سوى الركض في كل الاتجاهات بحثاً عنها بغية الظفر بها آخر المطاف.

نحن لا نكف إذن عن تصديق وهْم الصدق (مرادفاً للحقيقة) المطلق رغم أننا نُلدَغ من جُحر ذلك الوهم مراراً في الحياة، ولكَمْ وددت أن يكون ذلك تجسيداً لمعنى المثابرة في الإيمان العميق بالمعاني السامية لكنه للأسف أدنى إلى أن يكون تجسيداً لدلالات الإذعان العظيم للوهم وسطوته التي تبدو والحال كتلك بالغة الشدّة.

نرشح لك: عمرو منير دهب: حقيقة الكذب.. الفصل الحادي عشر من كتاب “كل شيء إلا الحقيقة

بإمكاننا الاقتراب من تحقيق نظرة موضوعية أفضل لتقييم الحقيقة/الصدق بدراسة معيار الصدق.. ولكن، هل يمكن ابتداءً وضع معيار من ذلك القبيل؟ ما هي تحديداً “أدوات” قياس الصدق؟ ألن يكون ذلك المعيار وتلك الأدوات نفسها – في حال الشروع في محاولة تحديدها ومناقشتها، أو حتى عقب النجاح في تسمية بعضها – محلاً لخلاف وجدال لا ينتهيان؟

أن نحوم حول الفكرة المجردة (المطلقة؟) لن يغني بحال، لنشرع على الفور في طرح بعض الأمثلة – مهما يكن حجم الخلاف الذي يمكن أن ينشأ بصددها – ونجرّب: ما هو معيار الوفاء بالوعد؟ لنقل إن أحدهم وعد بسداد دين وكان مخلص النيّة في تنفيذ الوعد ولكن عندما حان موعد السداد حالت ظروف عملية/واقعية صرفة فلم يكن في حوزته المبلغ الذي يجب عليه أن يعيده.. لا ريب أنه ذلك الفرد لم يقم بالوفاء بوعده في تلك الحال، لكن هل يُعدّ كاذباً أم صادقاً؟ من أجل المزيد من الدقة، أو لنقل المزيد من محاصرة مفهوم/معضلة الصدق، لنفترض أن الرجل لم يقل إنه سيسدّد دينه إذا سارت خططه على ما يرام وإنما قطع وعده جازماً بسداد الدين ثم طرأ ما لم يكن في حسابه من الاحتمالات فأعاق ذلك وفاءه بوعده، هل يُعدّ ما حدث مجرد إعاقة غير متوقعة للوفاء بالوعد أم تشكيكاً في مصداقية الرجل؟ الأرجح أن الإجابة تعتمد على موقف مَن يتم توجيه السؤال إليه، فأي شخص محايد – فضلاً بطبيعة الحال عن المدين نفسه – يميل على الأرجح إلى أن الظرف القسري لا يطعن في مصداقية المدين، في حين يميل الدائن في الغالب إلى أن المدين خائن ولن يعنيه كثيراً أن الظرف الذي حال دون وفائه بوعد تسديد الدين كان خارجاً عن الإرادة.

للمزيد من الدقة، نطرح السؤال التالي: بأخذ المثال السابق في الاعتبار، هل يغدو الصدق مرتبطاً بالواقعية، أي بما يتحقق على أرض الواقع وليس فقط بالنوايا؟ إذا كانت الإجابة التي يمكن أن يسارع إليها كثيرون: نعم، ألا يُعدّ ذلك تضميناً لقدر واضح من النفعية في تعريف قيمة بالغة المثالية كالصدق، بمعنى أن تقييم الصدق في تحقيق الوعد يصبح مرتبطاً برضا الطرف الموعود بناء على ما يجنيه من مصالح وليس بصدق نوايا الواعد أو الظروف المحيطة بإمكانية وفائه بوعده؟

بافتراض إمكانية الاتفاق نظرياً على إجابة على السؤال السابق، فإن الجدال الذي ينشأ في ظلال تعقيدات الواقع لا يقف عند حدود المكاسب/المصالح التي يقيسها كل طرف بناءً على ما يجنيه سواءٌ مادياً أو حتى معنوياً. ولكن الأدهى أن الجدال يمتدّ حتى إلى ما هو نظري صرف في تعريف الصدق وتحديد معاييره سواءٌ مع أمثلة كالذي تناولناه في مسألة الوفاء بالوعد أم بصفة عامة.

بالعودة مجدداً إلى المثال نفسه المتعلق بالوفاء بالوعد، نستغرق في بعض التفصيل لحالة محددة لشخص لا يشكّك أحد في نواياه الخالصة لكنه لم يستطع الوفاء بالوعد نظراً لوقوع ما لم يخطر بباله من المؤثرات. هنا ستنشأ النزعة – لا سيما من قبل المتضررين – إلى تحميل ذلك الشخص مسؤولية قطعه وعداً لا يحيط بكل الظروف التي تؤثّر في إمكانية الوفاء به، ولن يكون صعباً بحال على من وعد أن يردّ بأن فرداً مهما يؤتَ من الخبرة والحكمة لا يملك أن يحيط بما في علم الغيب من مؤثرات، بل لا يملك أن يُحكم السيطرة على مجريات المؤثرات التي يعلمها تماماً.

لا تبدو النوايا المخلصة وحدها إذن معياراً كافياً للصدق لدى كثيرين، ولكن الأدهى على صعيد قياس الصدق رجوعاً إلى النوايا أن شخصاً أقلّ صدقاً في النوايا – أو لا تعنيه كثيراً مسألة الصدق – قد ينجح في تحقيق وعوده أفضل مما يفعل آخر يكاد يجمع الناس على إخلاصه. الأكثر إرباكاً ربما ليس في تلك المفارقة وإنما فيما يتعدّاها إلى ما يمكن وصفه بالفارقة ضمن المفارقة، فقد يكون نجاح فرد أقل اهتماماً بمسألة الصدق في تحقيق وعوده مجرد نجاح في إيهام الآخرين بقيمة القدر الذي تحقق من تلك الوعود، بحيث تبدو المسألة في النهاية متعلقة ببراعة إبراز وتعلية قيمة إنجاز متواضع تحقّقَ، أو ربما إسعاد الآخرين بنصيب متواضع يتم إعلانه على أنه كل شيء والواقع أن قسماً كبيراً من كعكة الوعد المتحقق يتم تداولها مع آخرين في الخفاء.

معيار الصدق إذن متعلق بما يراه الآخرون الذين يقومون بعملية التقييم لذلك المعيار الذي نفترض جدلاً أننا نتفق عليه ضمن إطار من قبيل ما، وما يراه الآخرون في أفضل الأحوال يمتدّ ليشمل المؤثرات المتعددة والمتشابكة التي يمكن أن يقدّرها الآخرون فيما وراء الظاهر من العوامل والتجليات. ولأنه لا حدود لما يمكن أن يتجاوز توقعاتنا من المؤثرات على أي صعيد، فإن ثمة باستمرار عامل واحد على الأقل لا نراه قد يكون كفيلاً بتبرئة شخص نعدّه مقصراً في الوفاء بوعده أو كافياً في المقابل لنسف مصداقية آخر بارع في إيهام الآخرين بالقناعة بنصيبهم المتواضع من الكعكة العظيمة لوعد متحقق على أية حال.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي ([email protected])