البراء أشرف يكتب: أسئلة مليكة

تكريماً وتقديراً للكاتب والمدون الراحل البراء أشرف، يعيد إعلام.أورج كل جمعة نشر أحد مقالاته بجريدة المصري اليوم حتى نهاية عام 2015

مليكة، صغيرتي ذات الأعوام الستة. تخبرها أمها بضرورة أن يتناول الأطفال طعامهم، علشان يكبروا..

مرة جلسنا أمام الطعام، نظرت إلى طبقها الصغير طويلاً، سألت: بابا.. أنا باكل علشان أكبر.. إنت بتاكل ليه؟

على مواقع الإنترنت، توجد ردود نموذجية لأسئلة الأطفال. من أين جئنا؟، لماذا يتزوج الناس؟، أين ذهبت جدتي بعد وفاتها؟، أين الله؟. ولماذا نصلي؟.. لكني لم أجد (ولم أبحث أصلاً) إجابات لأسئلة مليكة..

مساء يوم ٣ يوليو ٢٠١٣، كنت أجلس في مقهى صغير، أتابع على الشاشة عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع وقتها، يعلن عزل محمد مرسي، وتعطيل الدستور، وما إلى ذلك من أمور قيل وقتها أن اسمها «خارطة طريق»، وأنا أعاني حساسية مفرطة، من هذه الكلمة.

على الرصيف المقابل للمقهى، جلست وفكرت. استغرق الأمر نصف ساعة، لأقرر بعدها بشكل واضح ونهائي، أن مليكة، يجب أن تسافر للخارج، هي وأختها الصغرى، بأي شكل، بأي ثمن. وقد كان. سافرت مليكة لاحقاً، بعد شهر ونصف، تحديداً (وللمصادفة) صباح يوم ١٤ أغسطس ٢٠١٣. وبالتزامن مع فض اعتصام رابعة.

كان يقيني، ساعة جلوسي على الرصيف، أن ما سيحدث لاحقاً في مصر، مستفز لصغيرتي، وسيجعلها تطرح مئات الأسئلة، وأنا مازلت عاجزاً عن الإجابة عن أسئلة سابقة لها، ظننتها بسيطة وسهلة.

(٢)
يقول أينشتين: إن لم تستطع شرح فكرتك لطفل صغير في نصف ساعة، فأنت نفسك لم تفهمها. وهذا صحيح تماماً.

منطق الأطفال سهل، بسيط وغير معقد، ١ + ١ = ٢. وأسئلة الأطفال، مباشرة، دقيقة، تضع الإجابة المحتملة بين اختيارين، صح أو غلط، طيب أو شرير، جميل أو قبيح.

بينما كنا نشاهد محمد مرسي في خطابه الأخير، سألتني مليكة : بابا.. عمو محمد مرسي طيب ولا شرير؟.. سؤال عميق المغزى. مرتبط بآخر قديم، حين شاهدت ما كان يعرف باسم «محاكمة القرن»، سألت: ليه مبارك في القفص؟.. قلت (وكلي ثقة): لأنه شرير. إذن، مرسي مكانه، في نفس منصبه، رئيساً للجمهورية، وهذه فرصة مناسبة للمقارنة..

مشكلتي مع السؤال تبدأ مع كلمة «عمو»، مرسي ليس عمو ولن يكون، مرسي يحكم مصر لأنه فاز في الانتخابات، والناجحون في الانتخابات، ليسوا أعماماً لنا، ولا آباء بطبيعة الحال، طفلة تعتبر الحاكم عمها، يمكنها حين تكبر أن تعتبره أبوها. وهذا لن يحدث لطفلتي.

مرسي طيب جداً، لدرجة أن طيبته صنعت منه شريرًا، وشريرًا جدًا، حتى إنه يظهر عادة بمظهر الرجل الطيب. إجابة لن تفهمها طفلتي على الإطلاق. ستسأل مرة أخرى : أيوه يعني طيب ولا شرير؟.

وبينما كنا نقف في إشارة مرور سألتني : ليه الشرطي مخيف؟..

لا أخيف طفلتي من رجال الشرطة، لا أعرف من أين جاءتها الفكرة بالأساس. ردي سيتعلق بتطهير الداخلية، وبنظام مبارك الأمني، وبحقوق الإنسان، وأحكام القانون، وهي أيضاً أمور لا تلائم منطق مليكة.

عندما ذهبت لزيارتها في الخارج، تجولنا في أحد المراكز التجارية، اشترينا الألعاب التي تفضلها، والتقطنا بعض الصور.. في السيارة سألتها: هنا أحسن ولا القاهرة؟.. قالت: الاتنين حلوين..

حسناً، سأصنع لها فخاً لأحصل على إجابة مباشرة، قلت: هنا أماكن اللعب كثيرة، والشوارع نظيفة.. قالت: بابا.. نضافة الشوارع مش كل حاجة!

مليكة تحب مصر. وتفهم الفكرة المعقدة، أن ما يربطنا بهذا الوطن أمور أخرى غير نظافة شوارعه. هذه فكرة خطيرة.

(٣)
في أيام الثورة الأولى، لم أمنع نفسي من اصطحاب مليكة إلى الميدان. هذه لحظة يجب أن تعيشها صغيرتي. لاحقاً، راقبتها تلعب مع أطفال الجيران «لعبة الثورة»، يهتفون سوياً : يسقط يسقط.. ثوار أحرار.. هنكمل المشوار.

بعدها، تسألني مليكة : فين الثورة؟.. إمتى هنرجع الميدان؟.. مش هنقول تاني يسقط يسقط..

بعض أسئلة الأطفال يحرم القانون الإجابة عنها، بعض الأفكار أخطر من أن نخبرهم بها. والوضع الحالي مربك، بحيث لا يمكن الحصول على إجابة مباشرة يسهل فهمها.

قبل عام، وفي طريقنا إلى المطار، بالتزامن مع فض رابعة، أشارت إلى عمود دخان أسود متصاعد إلى السماء. وسألتي : إيه ده؟.. قلت (منكراً معرفتي بما يحدث): حريقة.. وعندما وصلنا، وبينما أودعها على البوابة.. قالت : بابا، خلي بالك من نفسك.. اوعى تروح عند الحريقة.

مليكة لا تعرف أن الحريقة لم تكن برابعة فقط.

(٤)
أسئلة مليكة، والأطفال بشكل عام، بحاجة إلى إجابة، وطالما فشلنا في الحصول على إجابات ملائمة، فالأمر لا يحتاج لجهد كبير، لنفهم أن هناك مشكلة ضخمة تواجهنا، وستواجه هؤلاء الصغار، اليوم، وفي المستقبل.

بعد سفر مليكة بشهور، أصابني بعض التردد بخصوص فكرة إبعاد طفلتي عن مصر، نوبة أمل مفاجأة داهمتني، لكني بعد أيام، شاهدت صورة على الإنترنت، تم التقاطها داخل مدرسة مصرية، يرتدي فيها طفل زي رجل جيش، ويقبض بيده على طفل آخر يرتدي جلباباً أبيض، ومرسوم على وجهه لحية سوداء. حفلة تنكرية بائسة، لكنها حقيقية تماماً.

طفلتي ليست جزءاً من هذه الصورة، ولا تمت بصلة للمشهد الواسع الذي نعيشه. فما أعرفه جيداً، أنني نزلت إلى الشارع في المرة الأولى لأجل حق مليكة في حياة أفضل، في عيش وحرية وعدالة اجتماعية.

حق مليكة في وطن، تجد به إجابات ملائمة عن أسئلتها التي تبدو سهلة، لكنها ليست كذلك. حقها في وطن، يدرك كباره حقوق صغاره. وطن سهل، بسيط، وطن يجيب فيه المسؤول عن السؤال. بلد لا تتحول فيه الأسئلة إلى فوازير..

حق مليكة ألا تدركها الكراهية..

(٥)
توجد نصيحة تربوية عامة، مفادها : «تحدثوا مع أبنائكم، اسألوهم عن المستقبل».. سألت مليكة، عن حلمها حين تكبر.. ومليكة ماكرة، تدرك الحدود الفاصلة بين الجد والهزار.

قالت : ساحرة طيبة غير شريرة، تساعد الناس المحتاجين.. أو معلمة..

كأب مصري أشعر بفخر حقيقي أن صغيرتي لا ترغب في العمل كطبيبة أو مهندسة، كعادة الأطفال في مصر، فكرت للحظة أن أحدثها عن الكادر الخاص للمعلمين، لكني تراجعت. ثم سألتني : وأنت.. بما إنك كبير.. ماذا تعمل؟

قلت : مخرج.. أصنع أفلام وثائقية..
قالت : وهل هذه مهنة مهمة؟!
قلت : (كاذباً) طبعاً.. فأنا أخبر الناس بقصص مهمة حدثت في الماضي..
قالت : مش فاهمة.

هذا مكر وخداع، هي تعرف كل شيء، الابتسامة على وجهها، ونظرة عيونها تفضحها، لكني سأستمر في اللعبة.. قلت : أنت مثلاً حضرتي الثورة.. أنا أصنع فيلم عن الثورة تشاهدينه عندما تكبري.. أليست هذه مسألة مهمة؟..

قالت : مش متأكدة.. أعتقد لما أكبر مش هكون مهتمة أشوف أفلام عن الثورة.. حاول تكون ساحر طيب.. كده هتساعد الناس أكتر.

نقلاً عن المصري اليوم

اقـرأ أيـضًا:

محمد عبد الرحمن يكتب : أستاذي البراء أشرف

وفاة البراء أشرف

.

تابعونا علي تويتر من هنا

تابعونا علي الفيس بوك من هنا