عمرو منير دهب يكتب: نقص القادرين على التمام

“كفانا إذن حديثاً عن مزايانا ومناقبنا، فهي مؤكدة ومقررة وهي كفيلة بنفسها، ولنركز من الآن على عيوبنا، لننظر إلى عيوبنا بعيوننا في مواجهة شجاعة، لا لننسحق بها ولكن لنسحقها، لا لنسيء إلى أنفسنا ولكن لنطهر أنفسنا”.

ذلك جمال حمدان في عمله الشامخ “شخصية مصر”، نقلاً عن الجزء الثاني من “مختارات من شخصية مصر” الصادر عام 1995 عن مكتبة مدبولي بالقاهرة. وبالعودة قليلاً إلى الوراء في العمل ذاته نقرأ للمفكر المصري الكبير: “ليس هذا فحسب، أو ليت هذا فحسب. فما أكثر بعد ذلك ما نقلب عيوبنا عن عمد إلى مزايا ونقائصنا إلى محاسن، بل أسوأ من ذلك قد نتباهى ونتفاخر بعيوبنا وسلبياتنا ذاتها! ولعل هذا تجسيد لقمة ما سمّاه البعض: الشخصية الفهلوية”. وبالعودة فقرة واحدة سابقة من الموضع نفسه نقرأ: “ومن طريف ما يلاحظ في هذا الصدد أننا، حين نرجع مثلاً فيما نكتب عن أنفسنا إلى كتابات الرحالة والمؤرخين العرب في العصور الوسطى أو الكتاب الأجانب المعاصرين، ننتخب منها فقط تلك الإشارات الطيبة والمرضية ونحشدها حشداً… مهملين ببساطة شديدة كل الإشارات العكسية أو المعاكسة التي أوردها الكتاب نفسه والتي قد تكون أضعاف الأولى كماً وكيفاً”.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: اختراع التقاليد المصرية

جمال حمدان كما أشرنا في موضع قريب، تحت عنوان “الذين قرؤوا الشخصية المصرية”، من أبرع من تعرضوا لدراسة الشخصية المصرية، بل هو عندي أبرعهم على الإطلاق، هذا مع أنه يشير في عمله الفريد إلى أن ذلك العمل عن شخصية مصر وليس عن الشخصية المصرية، ربما انطلاقاً من تخصصه الأكاديمي في الجغرافيا التي هي دراسة عن المكان أساساً وليس الإنسان إلا بقدر ما تستدعي ضرورة دراسة أي أرض الحديث عن سكانها، الأمر الذي لا مناص منه، وهو ما كان يعيه جمال حمدان تماماً، وقد أشار إليه. الأهم أن حمدان عندما اقتضته ضرورة التنقيب عن عبقرية المكان أن يتعرّض بالتحليل لساكنيه فعل ذلك بمهارة منقطعة النظير. القارئ لتحليل جمال حمدان للشخصية المصرية يقع على نبرة حسرة لا تخلو من الحدة والخشونة في كثير من المواقع، لكنها بصفة عامة لا تفارق الموضوعية.

ليس الغرض في هذا السياق عقد مقارنة بين محاسن الشخصية المصرية وعيوبها. ولا تخلو شخصية وطنية بطبيعة الحال من محاسن وعيوب على السواء، بل لا تسلم أية شخصية وطنية من تداخل المحاسن والعيوب بحيث يصعب فض الاشتباك بينها في كثير من الأحيان، وذلك رجوعاً إلى نسبية الحكم لكل واحد، فضلاً عن الانحياز الفطري – سواء مع أو ضد – الذي لا يسلم منه إنسان.

عنوان المقال مستقى من بيت شعر للمتنبي، والحكمة هي ملعب المتنبي الذي برع فيه براعة منقطعة النظير، وبيته الذي استقينا منه العنوان من بعض أشهر ما قاله على صعيد الحكمة:

ولم أر في عيوب الناس شيئاً * كنقص القادرين على التمام

لن نتحدث إذن عما يمكن أن يكون في الشخصية الوطنية المصرية من عيوب مما لا تخلو منه أية شخصية وطنية، ولكن سنعرض لما يراه المتنبي فريداً بين كل العيوب: نقص القادرين على التمام.

من الطريف، وربما المفيد أيضاً، أن نتناول هذا العيب من مدخل بلاغي آخر بحيث نقرؤه في إطار “المدح بما يشبه الذم”، والمدح يكمن في أن الذين نأخذ عليهم في هذا المقام عيب النقص – أي عدم البلوغ بالأمر إلى منتهاه – هم “القادرون على التمام”، والأخيرة ليست هيّنة بحال.

في محيطها الإقليمي، لا سيما العربي، لن يكون عسيراً الانتهاء إلى أن الشخصية المصرية هي من أبرز الشخصيات الوطنية – والأبرز في كثير من الحالات – المؤهلة للوصول إلى مستويات رفيعة في الأداء على مختلف الصعد بما يضاهي ما هو مطلوب وفق أرفع المعايير العالمية. الحديث هنا ليس مقصوراً على الإنجازات الفردية التي لا تخلو من تحقيق أي منها أمةٌ مهما تكن صغيرة في المحيط الإقليمي لمصر أو على أي مستوى عالمي، وإنما المقصود تحديداً هو إنجاز الأمة بأسرها بما يصعد بتأثيرها إلى حيث تغدو رائدة في محيطها الإقليمي ومؤثرة عالمياً على كافة الصعد الفكرية والاقتصادية والسياسية والصناعية والرياضية وغيرها.

لم تكن مصر طوال تاريخها الحديث مؤثرة في محيطها الإقليمي فحسب بل ظلّت – على تقلُّب الظروف داخلها ومن حولها – بالغة التأثير بحيث لم تفقد مرجعيّتها الإقليمية حتى في الفترات التي اعتراها الضعف في هذه الناحية أو تلك وبهذه الدرجة وغيرها. وعليه فإن ما ينعاه الذين يقرؤون التأثير المصري – سواءٌ من المصريين أنفسهم أو من غيرهم – لم يكن غياب الدور المصري المؤثر تماماً وإنما انحسار التأثير المصري عمّا كان متوقعاً له من القوّة والتمام.

وإذا حدث أن سبق بعض الدول الإقليمية مصر من حيث التأثير في هذه الناحية أو تلك – ثقافياً أو إعلامياً أو رياضياً أو اقتصاديا أو في غير ذلك من المجالات – فقلّما سبقت دولة في المحيط الإقليمي مصر إلى التأثير في كافة المجالات مجتمعة، وربما لم يحدث ذلك مطلقاً، بحيث يمكن القول بأن المتوسط الحسابي لعمليات التأثير (محصّلة التأثير) قد ظلّ يرجّح كفّة البروز المصري بصفة عامة.

يبدو أن الجميع من حول مصر قد قبل ذلك، إمّا حبّاً وكرامة وإمّا بوصفه “حقيقة” أو واقعاً لا مناص منه. بالتعبير الأكثر موضوعية، فإن ذلك “الواقع” قد فرضته محدّدات جغرافية وسكانية وجيوسياسية وتاريخية – لا يمكن تجاوزها بحال – لم تتوافر لغير مصر في محيطها الإقليمي وأحياناً على النطاق العالمي، وهو أمر لا يمنع كما أشرنا أحقية التفوّق الذي دان لدول أخرى على الجوار في بعض النواحي – أو حتى في كثير منها – خلال فترات مختلفة، ولكن حتماً ليس بصفة عامة في معظم المجالات على امتداد التاريخ الإقليمي الحديث، وهو ما نعنيه بتعبير “محصلة التأثير” أو “متوسط التأثير الحسابي” عندما يحسم النتيجة الإجمالية في التأثير الإقليمي على المدى الطويل لصالح لمصر.

بالعودة إلى عنوان هذا الحديث ومحوره، ما الذي ينقص الشخصية المصرية القادرة على التمام؟ علماً بأن المعنى المفهوم من سياق العبارة يفترض ضمناً أن النقص هو عدم التمكن من إتمام الإنجاز أكثر من كونه افتقاد صفة بعينها لازمة لإتمام الإنجاز، فافتقاد الصفة اللازمة لإتمام الإنجاز يُخرج صاحبَها ابتداءً من زمرة القادرين على التمام.

للإجابة على السؤال أعلاه نتابع قصة يوسف إدريس كما أوردها نوبوأكي نوتوهارا في كتابه “العرب: وجهة نظر يابانية” الصادر عن منشورات الجمل ببيروت وبغداد عام 2016 (الطبعة الأولى عام 2003). يقول نوتوهارا: “الكاتب المعروف يوسف إدريس زار اليابان عدة مرات. ولقد قال لي إنه كان يبحث عن سر نهضة اليابان التي أدهشت العالم. هو نفسه كان مستغرباً ويريد أن يعرف الأسباب العميقة التي جعلت بلداً صغيراً معزولاً كاليابان يصبح قوة صناعية واقتصادية كبرى. وبعد الزيارة الثالثة سألته: هل وجدت الإجابة في اليابان؟ قال لي: نعم، عرفت السبب. مرة كنت عائداً إلى الفندق في وسط طوكيو حوالي منتصف الليل، ورأيت عاملاً يعمل وحيداً. فوقفت أراقبه، لم يكن معه أحد ولم يكن يراقبه أحد، ومع ذلك كان يعمل بجد ومثابرة كما لو أن العمل ملكه هو نفسه. عندئذٍ عرفت سبب نهوض اليابان، وهو شعور ذلك العامل بالمسؤولية النابعة من داخله بلا رقابة ولا قسر. عندما يتصرف شعب بكامله مثل ذلك العامل، فإن ذلك الشعب جدير بأن يحقق ما حققتموه في اليابان”.

يتابع نبوأكي نوتوهارا بعدها مباشرة: “بالطبع أنا لا أقصد هنا مفاضلة، ولست من القائلين بتفوق شعب على آخر. ولقد كررت مرات عديدة أن علينا ألا نُسقط قيمنا المسبقة على المجتمعات الأخرى. ولكنني أعرف من تجربة الإقامة في البلدان العربية معنى عدم الشعور بالمسؤولية”.

ما قاله يوسف إدريس صحيح، وتعقيب نوتوهارا – بالغ التهذيب – صحيح أيضاً، ولكن ذلك ينطبق على المحيط الإقليمي كله وليس على مصر وحدها. الأهم على كل حال في سياقنا هذا محاولة فهم لماذا يغيب الشعور بالمسؤولية الجماعية في الحالة المصرية تحديداً. يشير البعض إلى أن أحد الأسباب العميقة وراء ذلك هو الإحساس بالريبة تجاه السلطة التي تراقب وتحاسب كونها ظلت على مدى قرون طويلة أجنبية دخيلة، وعندما أصبحت السلطة وطنية لم يكن من المنطقي أن تتغير طبيعة السلوك الجمعي بين عشية وضحاها، وبحساب القرون فإن “العشية وضحاها” قد تمتدّان لسنوات طويلة، والأرجح لعقود مديدة.

مهما تكن دقة ذلك التفسير وغيره، فإن النزعة الفردية/العائلية/القبلية على حساب المجتمع الأكبر/الدولة تظل غالبة على العرب والشرق بصفة عامة لأسباب يبدو أنها متعددة ومتباينة ومتداخلة. ويظل الأهم – بصرف النظر عن طبيعة تلك الأسباب والاختلاف حولها – أن الإحساس بالقيمة المطلقة للعمل وتطبيق مبدأ الرقابة الذاتية هما من أرفع قيم المجتمع المدني الحديث مما يتطلّب بلوغُه مخاضاً عسيراً على مدى شديد الطول.

غير أن الحالات شديدة الخصوصية في العالم العربي والشرق كمصر – من حيث إمكانيات النهوض المتاحة من كل صوب – تظل الأكثر حفزاً على إعادة طرح التساؤل بإلحاح عن أسباب تأخر (وللدقة تعثّر) الارتقاء إلى مصاف الدول الأبرز تأثيراً على نطاق أوسع على المستوى العالمي. تلك منزلة جديرة لا ريب بمصر، لكن من أجل بلوغها ثمة استحقاق بالغ الصعوبة والتعقيد يتعلق بمواجهة صريحة لا بد منها مع الذات تتطلب كثيراً من الشجاعة، ثم إرادة خالصة لتطبيق ما تتمخض عنه نتائج المواجهة الشجاعة مع الذات، وقدراً عميقاً من الصبر والحكمة لبلوغ المرام العظيم.

للتواصل مع الكاتب من الإيميل التالي: ([email protected])