عمرو منير دهب يكتب: ماذا عن شيطان المصريين؟

يقول جيمس هنري بريستد James Henry Breasted في كتابه الذائع “فجر الضمير” The Dawn of Conscience، النسخة العربية من ترجمة الدكتور سليم حسن عن دار أقلام عربية بالقاهرة سنة 2017: “وسيكون في قدرتنا تتبع سير هذا المنهاج بأظهر بيان إذا ابتدأ باستعراض ملخص تاريخي بسيط يكون بمثابة نظرة عجلى على مراحل تطور الرقي الأخلاقي عند المصريين الأقدمين”.

أضاف بريستد: “وجدير بنا إذا وصلنا إلى هذا المكان ألا ننسى الحقيقة المتفق عليها الآن وهي أن الدين في طوره الأول لم تكن له علاقة بالأخلاق كما نفهمها الآن، كما أن المبادئ الأخلاقية الأولى لم تكن سوى عادات شعبية قد لا تكون لها علاقة بالشعور بالآلهة أو الدين. وقد كانت مظاهر الطبيعة أول ما أشعر المصري بوجود الآلهة، مثله في ذلك مثل الشعوب الأخرى القدامى. فكانت الأشجار والينابيع والأحجار، وقمم التلال، والطيور والحيوانات في نظره مخلوقات مثله أو مخلوقات حلّت فيها قوى طبيعية غريبة لا سلطان له عليها، ومن ثم كانت الطبيعة أول مؤثر مبكر في عقل الإنسان فوصف له العالم الظاهري أولا بعبارات دينية رهيبة، وصارت مظاهر الإلهية الأولى في نظره هي القوى المسيطرة على العالم المادي، فلم يكن في تصورات الإنسان القديم بادئ أمره معنى لمملكة اجتماعية أو سياسية، بل ولا معنى لمملكة روحية تكون السيادة العليا فيها للآلهة”.

نرشح لك:عمرو منير دهب يكتب: أشهر أضواء المسرح

يواصل بريستد: “وكان أبعد ما يتوهّمه عباد إله من هذه الآلهة أن إلههم يحمل في نفسه فكرة الحق أو الباطل، أو أنه يرغب في وضع هذه المطالب على كاهل عباده الذين كانوا يرون من جانبهم أن غاية ما يطلبه إلههم منهم هو تقديمهم القرابين زلفى له كما كانوا يفعلون لرئيسهم المحلي سواء بسواء. على أن أمثال هذه الآلهة كانت في جملتها آلهة محلية كل منها معروف لدى منطقة معينة فقط، ولكن كثيرا ما كان يمتد الاعتقاد في إله ما إلى جهات بعيدة في العالم القديم بسبب الهجرة أو انتشار السكان”.

كتاب بريستد الشهير هذا حاشد بالأفكار والرؤى المرجعية القابلة للنقاش بمستويات متعددة من الاتفاق والاختلاف بحسب كل فكرة وكل رؤية وموقف القارئ منها، ليس رجوعا إلى التاريخ المصري القديم فحسب وإنما إلى الأديان وتاريخها وفكرة نشوء الأخلاق لدى المجتمعات الإنسانية بصفة عامة. يعتبر الكتاب مرجعا غنيّا عند تتبّع سيرة المصريين مع الدين كما سنفعل في مقام قريب بإذن الله. ورائعة شوقي التي تستعرض كبار حوادث وادي النيل – والتي أحلنا إليها عند الحديث عن “مارد المصريين” – تتضمن في ثنايا العرض الملحمي لحقب التاريخ المصري المتتالية إشارات عميقة الدلالة تغري بدورها بالإحالة إليها في معرض الحديث عن تغلغل الدين في نسيج الحياة المصرية عبر تاريخها الطويل والعريض.

تلك مداخل عابرة – وربما مشاكسة على سبيل طرافة التناول – إلى ما نريده من هذا المقال. فالشيطان كما في العنوان ليس مقصودا بمدلوله الديني المباشر، وإن لم يخل القصد بطبيعة الحال من إيماءات صريحة إلى ذلك المدلول، ولكن مجددا بعيدا عن دلالات المصطلح الدينية الصارمة تجاوزاًإلى ما يلقي به المصطلح من انطباعات في نفوس الناس بصفة عامة، وإلى إيحاءاته التي يتداخل فيها الدهاء والمشاكسة والطرافة والبراعة تحديدا.

المقصود مباشرة هو الشيطان كما في التعبير الدارج مصريا وعربيا: “الله يجازي شيطانك”، وهي عبارة تقال عادةً مغلَّفة بالضحك بما يجمع الاستنكار والاستحسان معا لفعلة لا ترِد بالخاطر تتسم بالبراعة والطرافة ولا تخلو من الدهاء بما قد يصل إلى حدود المشاكسة والمكايدة تجاه طرف أصبح بتلك الفعلة مغلوبا على أمره وهو على كل حال لا يطلّ في القصة إلا إطلالة عابرة بوصفه الطرف المهزوم. وذلك مقابل البطل الذي لا يخلو إنجازه كما نرى من مسحة شريرة واضحة لكنها لا تثير حفيظة المتابعين بقدر ما تثير إعجابهم الكبير بشيء من التحفّظ من باب إبراء الذمة. فالعبارة إذن، والحال كتلك، تستتر خلفها جملة من المشاعر الإيجابية تفضحها القهقهات العميقة للقائل المتابع للحدث أو القصة وهو يبدي استهجانا زائفا تجاه الفعلة الماكرة أو بالأحرى تجاه الفاعل الذي يفرض على المتابعين الإعجاب بفعلته أو قبولها وتمريرها على أقل تقدير برغم ما يكون قد اعتورها من تجاوزات.

“شيطان المصريين” والحال كتلك عظيم، فبراعة الشخصية المصرية على هذا الصعيد لا تتجلى فقط في أن متابع الحدث أو القصة – حيث تضطلع الشخصية المصرية بدور البطولة – سيمرِّر الحدث الساخر متجاوزا عمّا قد يكون ألمّ بالطرف المقابل من عواقب الحدث ومرارة سخريته، وإنما تتجلى تلك البراعة بصورة خاصة في أن الطرف الآخر نفسه في الحدث أو القصة يمرّر أحيانا الفعلة التي حاقت به مضمرا قدرا من الرضا – بسلامة الإياب من المواجهة – وربما الإعجاب، كأنما يكتفي في مواجهة الشخصية المصرية في ذلك المقام بترديد: “الله يجازي شيطانك”.

ولكن التجليات الأعمق لـ”شيطان المصريين” تتبدّى فيما وراء المواجهات التي هي على سبيل المنافسات العابرة مما لا يخلو من المكايدة والمناوشة والدهاء. إنها إجمالا أشدّ تجسّدا في الإنجاز المصري على أي صعيد في الحياة على وجه العموم، سواءٌ أكان ذلك الإنجاز يستلهم غيره مما سبق إليه الآخرون أو يبدع على طريقته الخاصة. وإذا كان موقع مصر الحضاري حديثا -وموقع العرب والشرق عموما- لم يسمح بكثير من الإنتاج الأصيل على المستوى العالمي، فإن الشخصية المصرية قلّما كانت تسمح لما تقبسه عن الآخرين أن يخرج قبل أن تضفي عليه طابعا مصريا لا تخطئه عين أو أذن بحسب طبيعة المنتج الذي يتغلغل والحال كتلك إلى الوجدان – العربي بصورة أكثر خصوصية – كما لو كان مصرياًصميما.

إلى ذلك، بدت مصر قادرة على أن تظل محطّ أنظار العالم حتى في أوقات ضعفها، وظلت قادرة باستمرار على أن تجذب من هي أقوى منها من الأمم وتتعامل معها بفرادة، ليس بالضرورة استلهاما لحضارتها القديمة بأساطير على شاكلة “لعنة الفراعنة”، وإنما دوما على طريقة “شيطان المصريين” الآسر على نحو ما عرضنا له بشيء من التفصيل مع دلالات المصطلح العميقة.

للتواصل مع الكاتب من خلال البريد الإلكتروني التالي [email protected]