عمرو منير دهب يكتب: أشهر أضواء المسرح

 

لا يمكن التنبّؤ بالشهرة على نحو قاطع بأي حال من الأحوال، خاصة عندما يكون السؤال عن مدى وطبيعة الشهرة وليس فقط عمّا إذا كان أحدهم سيصبح مشهورا أم لا. وكما عرضنا مرارا في أكثر من مقام مباشر وغير مباشر، فإنه من السهل أن نفسّر ونحلّل أسباب الشهرة بعد أن تحدث حتى في الحالات التي كانت بعيدة جداً عن أي توقّع، في حين يغدو توقّع الشهرة مستقبلا لأيٍّ من الناس في أي مجال مسألة احتمالات لا نملك أمامها سوى التسليم بالاحتمال الذي يتحقق حتى إذا كانت نسبته مقابل الاحتمالات الأخرى واحد بالمائة أو أقل.

نرشح لك: أشرار رمضان.. مجرمون أم ضحايا عقد الطفولة وسوء التربية؟

رحم الله سمير غانم. من الصعب القول بأنه لم يكن بإمكان أحد التنبّؤ في البدايات بموهبة الرجل وقابليته للذيوع بدرجة ما، لكن لا ريب أن المكانة التي دانت له في عالم الكوميديا المصرية والعربية كان من الصعب توقّعها عند بداياته قبل حوالي ستين عاما، ليس فقط بصفة عامة، بل حتى عند المقارنة برفيقيه في “ثلاثي أضواء المسرح” جورج سيدهم والضيف أحمد.

صعد الثلاثي في ستينيات القرن الماضي إلى ذُرى ابتدع أولئك الثلاثة كثيرا من تفاصيلها البهيجة في سماء الكوميديا المصرية والعربية على مستوى الفرق. لكن بالقياس النسبي، وربما حتى بصفة عامة، لم تعمّر الفرقة طويلا. وإذا كانت وفاة الضيف هي السبب الأساس في شرخ الثلاثي الذي خطف الأبصار والقلوب، فإن تبايُن وافتراق تفاصيل مصائر الحياتين الشخصية والمهنية للنجمين الآخرين قد عجّلت بالانفصال الاختياري بينهما، وهو أمر يزعج جماهير المعجبين من الناحية العاطفية بعمق، لكنه يوشك أن يكون بمثابة السنّة التي لا مناص منها في سيرة كل الفرق الفنية، وربما الأكثر نجاحاً منها بصورة أوضح.

كان سمير غانم الأقلَّ ظهورا وشعبية بين الثلاثي عند ظهوره، وذلك مثال على غرائب/مفاجآت أسرار النجومية التي أشرنا إليها في بداية الحديث. فالضيف أحمد جسّد شخصية الشاب الهزيل جسديا وصاحب الحظ المتواضع من الوسامة لكنه مقاتل في الحياة ومحبوب لخفة ظلّه، فبرع بذلك في اقتحام الجماهير. أما جورج سيدهم فقد دخل القلوب من باب تكوين جسماني مختلف، شاب بدين على نمط “الكلبظة” يتّسم هو الآخر بخفة الظل، ويشكّل مفارقة جسمانية مقابل الضيف أحمد كفيلة بأن تجعلهما يبدوان كما لو كانا يشكّلان الثنائي التقليدي “التخين والرُّفيّع” القابل للاستيعاب والقبول بسلاسة ومرح في الفن وفي الحياة الواقعية على حدٍّ سواء.

بذلك أصبح التحدّي أمام سمير غانم كبيرا، فقد بدا قدَرُه والحال كتلك أن يكون الأخير المكمّل للثلاثة بملامح جسدية تنقصها الوسامة وكل ما يمكن أن يبعث على التعاطف والاستلطاف (كالجسد الهزيل أو الكلبظة) على السواء. لكن حظ النجم – الذي سيغدو الأشهر لاحقاً بين الثلاثي المرح – من الموهبة والحضور كان لا ريب عظيماً بوضوح. نحو ذلك من إيماءات البدايات ما أشار إليه الراحل محمود السعدني في أحد كتبه التي عرض في مقال ضمنها لمسيرة الفرقة في بواكيرها، فأشار إلى سمير غانم حينها بوصفه الرجل الذي يحب أن يلعب دور “عبيط” الفرقة.

وكما إن الشهرة أسرار، فإن الموهبة أسرار. والأرجح أن أسرار المواهب، إضافة إلى مفاجآت الأقدار الخارجة عن سيطرة البشر تماماً، هي ما يجعل مصائر النجوم – والناس بصفة عامة – تتغير، بل تنقلب من حال إلى نقيضها. وهكذا، كانت نتيجة امتحان سطوة الموهبة وقابليتها للتأثير وصلاحيتها للاستمرار – بعد لمعان البدايات الخاطف – لصالح سمير غانم بفارق لم يكن بسيطاً بحال.

بعيدا عن سيرة ومسيرة “ثلاثي أضواء المسرح”، ظل سمير غانم متميزا كذلك. فقد اختطّ لنفسه أسلوبا متفردا عمّن حوله حتى إذا لم يكن الأبرز – شعبية وإيرادا ماليا – بينهم بالضرورة. وقد سمعت الرجل نفسه يشير من طرف خفي إلى ذلك التميّز في لقاء بثّه التلفزيون المصري ربما أواخر التسعينيات الماضية على الأرجح. بدا سمير غانم في ذلك اللقاء معتدّا وهو يسرد شهادة يوسف عوف الذي قال له بأنه يؤدي في الدراما المصرية والعربية ما يعرف في أمريكا بكوميديا المهرج، وهو ما لا يستطيع كل نجوم الكوميديا أن يبرعوا فيه. وبصرف النظر عن دقة ذلك التحليل، فإن أسلوب سمير غانم تميّز بالفعل بفرادة كثيرا ما اتّخذت من السذاجة/الاستهبال (وليس الفهلوة على سبيل المثال) مدخلاً سلسا وبارعا إلى قلوب الجماهير، ولعل هذا ما أراده يوسف عوف بتقمّص سمير غانم لنمط كوميديا المهرج.

استمرّ غانم بثبات لم يزعزعه تقلّب أحوال الدراما التلفزيونية والصناعة السينمائية مصرياً وعربياً، بل لم يؤثر فيه على نحو يذكر اضطرابُ الحياة من حوله على تغيّر الحقب واختلاف حدة مستويات المؤثرات الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية. وقد أشرنا إلى الدراما التلفزيونية والسينما تحديداً لأن حضور سمير غانم عبرهما لم يكن الأفضل له على الصعيد الفني قياساً بحضوره الزاهي عبر ما عرف بالمسرح التجاري، وباستثناء حضوره شديد التميز على الشاشة الصغيرة ليس من خلال المسلسلات التلفزيونية وإنما عبر الفوازير والبرامج التي قدّم بعضها وحلّ ضيفاً ذكياً ومتميزاً على العديد منها، والنجم المتميز يعمّق حضوره في وجدان الناس عبر كل إطلالة له من أية نافذة جماهيرية وليس من خلال أعماله الفنية فحسب.

ولعل أهم ما يستوقف في مسيرة سمير غانم الفنية وسيرته مع النجومية تحديدا أن ارتباط اسمه بكثير مما عرف بأفلام المقاولات وأداءه المتواضع بالفعل في تلك السينما – التي تكاد تخلو تماماً من القيمة الفنية – لم يؤثرا على أدائه وموقعه المتميزين على خشبة المسرح الجماهيري واستمرار حضوره من ثم بوصفه “مهرّجاً” راسخ المكانة، باستعارة تعبير يوسف عوف مجدداً. ذلك درس بليغ لا يبرر بطبيعة الحال انجراف الفنان وراء الظواهر العابرة من أجل المال أو التواجد، قدر ما يؤكد أن الموهبة الأصيلة تحتفظ ببوصلتها دوماً تذكّرها بالوجهة التي عليها أن تواصل الإبداع عبرها كلما أوشكت أن تضلّ الطريق، سواءٌ سهواً أو بقدر من التعمّد القسري، وأرجو أن يجوز التعبير الأخير.

عبر الإصرار على إبراز الموهبة الأصيلة كتب سمير غانم اسمه في سماء الكوميديا المصرية والعربية، وعلى قدر أصالة تلك الموهبة سيبقى.

للتواصل مع الكاتب (من هنـــا)