محمد فتحي يكتب: شريف مدكور.. أن تحب متأخراً

ما الذي جعل شريف مدكور أكثر مذيع تم التنمر به في السنوات العشر الأخيرة ؟؟شريف مدكور
دعك من حجم التعاطف الحالي مع شريف ومع حالته الصحية التي أعلن عنها صريحاً واضحاً مؤكداً أن لديه ورماً في القولون تأكد منذ قليل -للأسف- أنه ورم خبيث في جسد هذا الشاب الأربعيني الذي اكتشف فجأة أن هؤلاء المتنمرين أنفسهم يمكن أن يحبوه، رغم أن أغلبهم كان يسأل خلال العشرة سنوات ذاتها: ما الذي يجعل شريف مدكور مذيعا من الأساس؟
أهلاً بكم في حلقة جديدة من تعقيدات الشخصية المصرية في مسلسل لن ينتهي أبداً وتركيبة تثبت أنها عصية على أي فهم.
(1) 
ربما كان “من كل بلد أكلة” هو البرنامج الأول لشريف مدكور في قناة “نايل فاميلي”، لكن الذائقة المصرية الشعبية الذكورية لم تستسغه في البداية. التوستستيرون المصري لا يتفق مع صوت هادئ ناعم وشاب مهذب من مصر الجديدة يرونه ناعماً وينعتونه بينهم وبين بعضهم البعض “بالفافي” ولا داعي لكتابة المترادفات السخيفة الأخرى بكل تبعتها السوقية.
بالنسبة لمنظومة الرجولة المصرية الكلاسيكية شريف “ناعم”، وليس شبهنا، ويتحدث في موضوعات (الستات) على اعتبار أن الطبخ موضوع نسائي تفوح منه لديهم روائح الأستروجين والكروموسوم (إكس)، ومن الصعب على هؤلاء اعتبار (واي) مشارك فعال في تلك العملية المعقدة. هم أنفسهم يقبلون أن يأكلوا عند “البرنس” أو “عز المنوفي”، صاحب عربة الكبدة والسجق.. يقبلون برامجاً يقدمها شيفات أجانب، لكن مذيع يتسامر معهم ويحكي مع المتصلات بنبرة صوت يظنونها مصطنعة وعلى مستوى نعومة النساء يستحق حتماً ما سيصمونه به!!
في المقابل كان شريف يرتقي.. يرتقي بمعنى الكلمة؛ هذا الشاب “ابن الناس” الذي هو من مصر الجديدة وأغلب خروجاته في “الكوربة” ونادي هليوبليس، وعائلته أرستقراطية، وحفيد لوزير حربية مصر الفريق محمد فوزي، هذا الشاب خريج التجارة والدارس في سان جورج هو لدى الأخريات “الواد المفعوص” ابن الجيران، وكأنهن رأينه يكبر أمامهن، فلا خجل ولا كسوف. هو بالنسبة إليهن “الواد ده عسل” ومصدر ثقة و”دمه شربات ابن اللذينة”. ذات مرة سمعت إحدى الجارات تأمر بنتها “حولي على شيكو”، وقد ظننت في الأمر إشارة لمسلسل كارتون لكن اتضح أنها كانت “تدلع” شريف مدكور باعتباره فرداً من العائلة وبرنامجه موعد لقاء يشبه استراحة ما بعد ساعة القيلولة.
في تلك اللحظة من تاريخ التليفزيون المصري كانت الأنظار تتجاهل الحدث الاجتماعي لحساب التلاسن السياسي والصعود المستفز غير المحسوب لبرامج التوك شو، وفي تلك الأثناء كان شريف مدكور يصنع أسطورته الذاتية.
(2) 
في دراسات القائم بالاتصال يعد (الجمهور المستهدف) بوصلة لا يمكن أن تحيد عنها. هناك من يختار التعامل مع الجمهور بوصفه جمهوراً سلبياً يطلق في رأسه رصاصة سحرية تتحكم فيه، وهناك من يرتب له أجندته وفق احتياجاته لا وفق ضروريات الجمهور، وهناك من يقرر أن يتفاعل مع هذا الجمهور المستهدف. شريف مدكور كان من النوع الأخير، وقد قرر الخروج من الشكل النمطي لما اصطلح عليه “برامج الطبخ” لشكل أكثر رحابة واحترافية يقدم فيه “شو” عائلي بامتياز  يتفاعل فيه مع جمهوره المستهدف، ويجيد اختيار  موضوعاته من خلاله.
صعب بالنسبة لي أن أذكر أسماء معدين زملاء عملوا مع شريف، لكن سهل أن أشير إلى حلقات وموضوعات ونجوم اكتشفهم، فالرجل فتح الطريق لعدد من الشيفات المشهورين الآن ولم يكن من الغباء والنفسنة الذين يجعلون البعض يظنون أنهم النجوم وحدهم والباقي عوامل مساعدة، ثم على مستوى (الفورمات) كان شريف سباقاً إلى فقرات مختلفة عن السائد تكمل شكل “الشو” المبهر بالاستعانة بالأطفال أحياناً، وبعارضات أزياء محترفات، وخبيرات إيتيكيت في أحيان أخرى.. صار لشريف شكل جعل القنوات تتهافت عليه ليخرج من تجربة التليفزيون المصري الذي لا تستبعد أن تدخل الاستديو فيه قطة مرت بالصدفة، إلى فضائيات تنافس به فضائيات أخرى.. صار نجماً رابحاً وورقة يمكن الضغط بها لكنه لم يكن يأبه لذلك ويعمل في صمت، ولا يستطيع للأسف أن يتعدى واقع التنمر الذي يزيد يوماً بعد يوم برجولته قبل أن يكون بكونه مذيعاً، لاسيما وقد تطور الأمر لأشياء مهينة من شأنها السباب المباشر واتهامات الشذوذ، قبل أن يتطور الأمر لمراحل أكثر خطورة يحكي عنها شريف نفسه حين يشير إلى تحرش البعض به إذا رأوه مصادفة في الشارع بصحبة صديقة من صديقاته، ونزوله للمشاجرة أكثر من مرة.. إن لم يكن ذلك كفيلًا بإحباطك شخصيًا فمتى تحبط؟؟.. حسناً .. شريف لم يحبط حتى بعد أن صار مشهوراً أكثر وأكثر بسبب شو آخر هو واحد من الأكثر احترافية في تاريخ الفضائيات العربية.. عن باسم يوسف أتحدث
(3) 
كان شريف مدكور ضيفاً ثابتاً في سخريات باسم يوسف الأشهر، والتي تعطي لأبطالها شهرة أكبر، وكان باسم وفريقه أذكياء فيما يلتقطوه من مشاهد لشريف، لكنهم بطريقة أو بأخرى، بقصد أو بدون قصد، كانوا يثبتون الصورة الذهنية لشريف مدكور لدى الوعي الجمعي الذكوري.. فهذا شريف يؤدي حلقة باليه مع أطفال وشباب قد تبدو عفوية، ومناسبة لسياقها لكن مع باسم كان الأمر مختلفاً.
شريف في البداية تلقى الأمر بتحفظ، ثم بتحفز، ثم بغضب شديد، ثم سرعان ما هدأ – على ما يبدو – إذ تواصل مع باسم – على ما يبدو أيضاً – وفهم طبيعة “الشو” الأهم في البرامج العربية الساخرة عبر التاريخ التليفزيوني.
إلا أن في الأمر فواتير كان يجب أن يدفعها في حياته الشخصية مع مواصلة التنمر به، ومع مرور الوقت ظل شريف يعمل ويعمل ويعمل، صار للرجل معرفة مباشرة بعدد ليس بقليل من العاملين في المهنة.. صاروا يحكون مواقفه معه إذا أخطأ أحد في حقه عن معرفة ودرية بشخصيته.. صار له محامون.. كيف لا وقد انضم لفئة قليلة جدا من المذيعين المصريين والعرب الذين تحمل برامجهم اسمهم.. في تلك الفترة كانت لفتات شريف الإنسانية عديدة حتى على الهواء مباشرة.. إذ ثار ذات مرة لموظف الأمن الذي أهانه مسئول في قناة منافسة وصعد شريف الأمر وطلب الاعتذار من هذا المسئول الذي اعتذر بالفعل.. انتقل شريف من التليفزيون المصري للمحور ثم من المحور للنهار، ثم انتقل إلى مجموعة إعلام المصريين ووسط كل ذلك كانت العقدة تطارده رغم أنه لم يعد يلقي لها بالا وهو يرد بالعمل والعمل.. عقدة المذيع “الفافي” الذي كشف كثيرون عن جدعنته ورجولته وعلاقاته الطيبة بزملائه وفريق عمله وبساطته الشديدة وتلقائيته المدهشة وحبه المشاركة في غسل الأموات وهم في طريقهم للقاء الله عز وجل..
ومع ذلك..
مع كل ذلك.. هناك الصورة النمطية المستفزة التي آن لها التغير بعد إعلانه عن إصابته بالسرطان، وكأننا يجب أن تحدث لما مصيبة كبرى ليحبنا الآخرون ويعيدون النظر فينا فوقتها سيكتشفون في قرارة أنفسهم إنهم يحبونا وإن أظهروا العكس..  ويحبوا فينا ما لم يستطيعوا أن يكونوا.. لكن ذلك سيأتي – للأسف – متأخرا..
متأخرا كثيرا..

شريف مدكور