محمد وليد بركات يكتب: التطعيم هو الحل..!

منذ القرن الماضي سنت الدولة سُنة حسنة، وهي فرض التطعيمات على كل مولود على أرض هذا البلد، فحمت بذلك الرئات من السل، والسيقان من الشلل، والأكباد من الفيروسات، ولكنها على الجانب الآخر قصرت تجاه التطعيم الأهم على الإطلاق.. تطعيم العقول!

نعم للعقل تطعيمات أيضا، من الواجب أن يحصل عليها المواطن منذ نعومة أظفاره، للوقاية من أمراض العقل، كالتفكير غير العلمي وغير المنطقي، والإيمان بالخرافات والسحر والدجل، وتصديق الشائعات والأخبار المزيفة، والتشكيك في ثوابت الدين، والتقليد الأعمى للثقافات الأخرى، والإعجاب بالفنون الهابطة، والإعلام المبتذل، وغيرها من الأمراض التي لم تنتشر إلا لغياب هذا النوع من التطعيم.

ولعلك تسأل – عزيزي القارئ – عن الكيفية التي تؤخذ من خلالها تلك التطعيمات، فهل تكون على هيئة “حقن” في الدماغ مثلا ؟!

دعني أخبرك بأن كتاب مثل “التفكير فريضة إسلامية” للأستاذ العقاد، من أفضل التطعيمات ضد مرض الانقياد الأعمى، وأن رائعة الدكتور طه حسين “مستقبل الثقافة في مصر”، خير ترياق لمرض التغريب الساذج الشكلي، وخير شارح لهويتنا الممتدة المتشعبة، التي قال عنها أديب نوبل المصري العظيم في كتاب “وطني مصر” للكاتب محمد سلماوي: “إن لمصر سحرا خاصا لا يستطيع أن يتحدث عنه إلا من عرفه، ولقد جاءها الغزاة بالجيوش والأساطيل فغزتهم هي بالحضارة؛ لأن حضارتها كانت أقدم وأعرق من حضارة كل غزاتها”.

خذ عندك أيضا كتاب “الإسلام السياسي.. والمعركة القادمة” للدكتور مصطفى محمود، الذي كان من الممكن أن يوفر علينا الكثير من الدماء والأموال التي أهدرت على صراع لا جدوى له، أيضا كتابه “حوار مع صديقي الملحد” كان من الممكن أن يحاصر ظاهرة الإلحاد على الأقل، وإن لم يُفلح في القضاء عليها، أيضا “التفكير العلمي” للدكتور فؤاد زكريا قادر على ضرب التفكير الخرافي في مقتل، وأخيرا “عودة الوعي” للكبير توفيق الحكيم؛ محذرا ومنذرا من بشاعة نهايات الحكم المطلق وإن حسُنت مقدماته.

كل هذه الكتب وغيرها العشرات، وربما المئات، كان من الممكن أن تمثل “تطعيما” نافعا للعقول ضد ما يتآمر عليها من صنوف الشرور، ولعلي أذكر مقال الدكتور زكي نجيب محفوظ “نمل ونحل”، الذي كان مقررا علينا في مادة اللغة العربية في المرحلة الابتدائية، وكان أول ما لفت نظري إلى أن النمل – بالرغم من نشاطه ونظامه – لا يقدم جديدا، وإنما يحفظ ما يجمعه على صورته ويستهلكه فقط، أما النحل فإنه يمتص الرحيق لينتج عسلا مختلف الخصائص والفوائد عن مادته الخام، وكذلك أتمنى أن يمتص طلاب التعليم المصري “رحيق العلم” ثم يعيدون إنتاجه في “عسل العمل”، ولعلها فرصة طيبة للإشارة إلى أن بعض المقالات التي تقررها وزارة التعليم على الطلاب في مادة اللغة العربية سخيفة ومملة لا تستحق أن “يُذاكرها” ملايين الطلاب سنويا، وإنما يكفيها أن تقبع في نسخ متهالكة من أرشيف الصحف التي نشرتها.

تطعيم آخر مفيد يجب أن تقدمه وزارة الثقافة بأجهزتها المختلفة، عروض سينمائية ومسرحية، وحفلات غنائية وموسيقية راقية، مجانا أو بأسعار مخفضة، وحسنا تفعل الوزارة بإقامة محكى القلعة، ولكنها بحاجة إلى حفلات كهذه 365 يوما في السنة، لا أسبوعين، وفي كل المحافظات تخلصا من مركزية القاهرة “القاهرة” لأبناء الأقاليم الأخرى، مثل هذه “التطعيمات” ستعلم الناس التمييز بين الجيد والردئ، الغث والثمين، وقتها لن يكون “نمبر وان” إلا من يُقدم فنا راقيا، يحمل فكرة، أو يعبر عن مشاعر، أو يحل مشكلة، أو يرسم بسمة، ولن يكون هناك “مافيا” طالما هناك جمهور يستطيع الفرز والتمييز عن وعي.

التطعيم الثالث مسئولية رجال الأزهر والأوقاف والإفتاء والكنيسة، سواء كانت خطبهم ودروسهم وعظاتهم في دور العبادة أو على شاشات التليفزيون، بأن يكون إصلاح الخطاب الديني عبر آليتين واضحتين، الأولى: تحديد الأولويات، والثانية: أسلوب الخطاب، والإسلام يقر “فقه الأولويات”، فليس من المقبول أن يتفرغ داعية للحديث عن “الجن”، مهملا موقف الدين من قضايا أكثر إلحاحا كترشيد استهلاك الموارد، أو إتقان العمل، أو مكارم الأخلاق وتطبيقاتها، وليس من المقبول أن يُقدَّم الخطاب إلى الناس بهدف “مصمصة” الشفاه، والترحم على أيام الصالحين؛ لنعود بعدها إلى حياة الشياطين وكأننا لم نسمع شيئا؛ لأن الخطاب لم يربط بين النص والتطبيق، أو السلف الصالح والواقع الحالي.

أما التطعيم الرابع فمن نصيب رجال الإعلام، والحقيقة المؤسفة أن نسبة لا يُستهان بها من رجال الإعلام أنفسهم بحاجة إلى تطعيم لهم ولجمهورهم، يُعرف باسم “التربية الإعلامية والمعلوماتية”، وهو فرع علمي يهتم بتدريب الجمهور على التعامل الرشيد مع المعلومات ومضمون وسائل الإعلام بكل أشكالها، وكيفية التمييز بين الجاد والهزلي، والحقيقي والمزيف، وقد أدخل البعض “في أوروبا والدول المتقدمة” هذا العلم إلى المدارس كمقرر دراسي لـ”تطعيم طلابهم” ضد أخطار وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها الشائعات.

إذن هذه التطعيمات هي جهد دولة يعاونها المجتمع، يجب أن تكون الدولة جادة في صناعة مواطن “ناقد”، ولو انتقد سياساتها، وأن يكون المجتمع جادا في تطهير نفسه، ولو آلمه بتر الورم السرطاني الخبيث، وأن تكون القناعة تامة بأن “التخويف من المؤامرة”، أو “اللوم على الإعلام”، أو “الدعوة إلى مقاطعة المسفين”، مجرد “مسكنات”.. أما “التطعيم” فهو العلاج الشافي..

“التطعيم هو الحل”..!

نرشح لك: محمد وليد بركات يكتب: مقام الأستاذية