في ذكرى رحيله.. أم كلثوم تسأل و"هيكل" يجيب

أحمد شعبان

على مدى سنوات عمره المديدة، ظلّ الراحل الكبير محمد حسنين هيكل صحفيًا لا يُبارى وأستاذًا لا يُضارع، تجربته عريضة تعددت أدواره فيها بين الصحافة والسياسة، شارك في صُنع السياسة المصرية لفترة طويلة، فعقب ثورة يوليو صار صديقًا ومستشارًا ومنظرًا لرجلها القوي جمال عبد الناصر، وظلّ متربعًا على عرش مهنة وهبها حياته، وظل فخورًا وأثيرًا بانتمائه إليها، يحب أن يصف نفسه دائمًا بـ”الجورنالجي”.

خلال أكثر من 70 سنةً قضاها داخل أروقة الصحافة، كان “الأستاذ هيكل” كما يحلو لتلاميذه ومحبيه تسميته، مالئًا للدنيا وشاغلًا للناس، يراقب ويتابع ويحلل، ينتظر الجميع مقالاته، وتتهافت الصحف ودور النشر لنقل كلماته، قال عنه هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق: “تستطيع أن تعرف من خلاله كل شيء عن الشرق الأوسط لو التقيته”، واعتبره المؤرخ الفرنسي جان لاكوتور “الشخصية الأكثر إثارة للاهتمام في مصر المُعاصرة”، وحين أهداه العالم المصري جمال حمدان، صاحب “عبقرية مصر” نسخة من أثره الجليل وصفه بـ”أهم كاتب سياسي في العالم وأعظم مفكر سياسي أنجبته مصر”.

نرشح لك.. سيد النقشبندي.. صنايعي الإنشاد “ماشي في نور الله”

حين تولى “هيكل” رئاسة تحرير “الأهرام” عام 1957، كانت الصحيفة عاجزة عن المنافسة، بقي فيها 17 عامًا جدد خلالها شباب الصحيفة وهي في التسعين، انطلقت بروح جديدة على يديه، وحقق نجاحًا مذهلًا، جعلها من ضمن أفضل 10 صحف في العالم. استقطب عددًا من نجوم العصر وقتها، توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وزكى نجيب محمود ولويس عوض وبنت الشاطئ وصلاح طاهر، للكتابة في الأهرام، فـ”هم حجر الأساس وقتها فى بنية الثقافة المصرية وقوة مصر الناعمة فى محيطها.. أردت بوجودهم أن أؤسس لصحافة القيمة والارتفاع بمستوى الحوار العام وأن يكون المثقفون والأدباء والمفكرون الكبار فى قلب المشهد يتابعون ما يجري فيه ويكتبون عن معرفة”، هكذا قال “هيكل”، بحسب ما ذكره عبد الله السنّاوي في كتابه “أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز”.

كما جمعته بسيدة الغناء العربي أم كلثوم علاقة فريدة، استكتبها في الأهرام وكثيرًا ما كتبت افتتاحية الصحيفة الأعرق، يقول “السنّاوي” في كتابه: “إذا جاز لي أن أحدد فنانًا باسمه هو الأقرب إليه فإنها أم كلثوم ولا أحد آخر قبلها، كانت صديقته الأثيرة وفي رأيه أن فيها “شهامة اهل الريف”، بينما لم يحظ محمد عبد الوهاب بنفس المكانة ففيه “براجماتية الحارة الشعبية”، يكمل: “لم ينس أبدًا لأم كلثوم وقفتها بجواره في كل الظروف فهي صديقة الملمات والأوقات الصعبة، زارته ببيته وحافظت على المودة القديمة كما فعلت مع كل الذين ارتبطت معهم بصداقات ومن بينهم السيدة تحية كاظم في ظل الهجوم على عبد الناصر”.

ذات يوم تبادلا المواقع، وعملت أم كلثوم صحفية وحاورت الأستاذ هيكل حوارًا شهيرًا، نُشر في مجلة “آخر ساعة” يوم 6 ديسمبر 1967، وأعادت نشره مجلة “ديوان الأهرام” في عدد أبريل 2017، ضمن ملف عن كوكب الشرق، أعدّه الكاتب الصحفي محمد شعير، مدير تحرير “أخبار الأدب”، ومؤخرًا أصدر “شعير” كتابه “مذكرات الآنسة أم كلثوم”، عن سلسلة كتاب اليوم، وتضمن نص الحوار، وفي الذكرى الثانية لرحيل الأستاذ هيكل، الذي فارقنا إلى “دار العودة” في 17 فبراير 2016، يسلط “إعلام دوت أورج” الضوء على ذلك الحوار.

سألت “أم كلثوم” الأستاذ هيكل عن أحداث الساعة السياسية وتطورات الموقف حينئذ، و عن مؤتمر القمة العربية القادم في الرباط وعن دور الأمم المتحدة في أزمات الشرق الأوسط، وجرى الحوار بدون إعداد سابق فكانت كوكب الشرق توجه أسئلتها وكان هيكل يجيب عنها مباشرة، وقد قالت أم كلثوم بعد انتهاء الحوار إن هيكل كان واضحًا وصريحًا كعادته دائمًا.

وخلال أحد لقاءاته مع لميس الحديدي، أوضح “هيكل” أن الإذاعة المصرية قررت في رمضان من ذلك العام، أن يحاور الفنانون الصحفيين، فاختارته أم كلثوم لتحاوره، وأذيع الحوار وقتها.. قالت أم كلثوم في بداية الحوار السياسي مع هيكل أمام ميكروفون البرنامج العام: قبل أن أبدأ حديثي أحب أن أقول أن الصحافة اعتادت دائمًا أن تضعني في موقف الجواب وتوجه لي الأسئلة، ولكني في هذه المرة أغير موقعي وأوجه الأسئلة إلى الصحافة.. والواقع أنها صدى للأسئلة التي تدور بأذهان الجماهير في الوقت الحاضر.

أولًا: أريد أن أسأل عن مدى فاعلية الأمم المتحدة في قضايا الشعوب وعن فاعلية دورها في قضايا الأمة العربية بالذات؟ أجاب محمد حسنين هيكل قائلًا: بالنسبة لفاعلية الأمم المتحدة فإنها لا تزيد عن الفاعلية الأدبية والسياسية والقانونية، سواء كان ذلك في قضايانا أو قضايا غيرنا من الشعوب.. لأنه فيه النهاردة رأي عام في الأمم المتحدة؛ الرأي العام ده يعبر عن نفسه في موضوع العدوان وأدان عملية احتلال الأراضي بالقوة وأعطى أساسًا قانونيًا وأساسًا سياسيا لعملية الانسحاب، ولكن يبقى علينا وعلى غيرنا من الشعوب أنها قضايا نستطيع أن نحولها إلى حق له احترامه وذلك بالنضال، إذا كنا سنناضل أدبيا فقط معتمدين على الحق الأدبي والحق القانوني لن نصل إلى أي شيء إذًا نعمل إيه؟ فيما يتعلق بنا الأمر كله يرجع إلى سؤال نستطيع نقف قد إيه؟ نستطيع نقاوم قد إيه؟ نستطيع نحارب قد إيه؟

أم كلثوم: هذا كلام حقيقي لأن في سنة 1948 الأمم المتحدة معملتش حاجة في مشكلة اللاجئين،عشرين سنة مضت وما زال الناس كلها بتتكلم وتتكلم في القضية دي، مجلس الأمن رفض احالتها للأمم المتحدة والأمم المتحدة معملتش ولا حاجة، ثم كمان أن تكون هناك دولة أو دولتين يتحكموا في مصير الشعوب وفي مشاكلها وفي قضاياها أعتقد إنها أصبحت مشكلة مصيرية وخصوصًا بالنسبة للشعوب الصغيرة والسؤال أيضا أليس هناك نهاية لهذا الوضع؟

هيكل: لقد أثرت بهذا السؤال قضايا الدنيا كلها، لكني أعتقد أن هناك فرقًا كبيرًا بين العالم العربي الآن والعالم العربي سنة 1948 ورغم النكسة فإن هناك فرقًا جوهريًا واساسيًا في الصورتين وخصوصًا في مصر وبالنسبة لمصر. ولكن يمكن أحد يعترض على الكلام ده ويقول ما احنا كنا مصر سنة 1967 من خمس شهور حينما حدثت النكسة والواقع لازم نضعه في صورة الحقيقة ونستفيد من كل ما جرى وما حدث، والواقع أنني شبهت الذي حدث في يونيو الماضي تشبيه معقول، وأحد كان مستعد يعمل عمل وقادر عليه قدرة ذاتية وعنده ما يمكنه من أداء هذا العمل، ولكن وهو رايح يعمله أصيب في حادثة وأنا بعتبر اللي حدث في الطيران واللي حدث بعد كده في سيناء عملية أشبه ما تكون بالحادث الطارئ.. وليست المقياس الحقيقي لقواتنا الذاتية ولكن هذا الحدث عارض ولا ينبغي أن يهدم كل ثقتنا بالنفس وفي التغيرات التي حدثت في العالم العربي في سنة 1948 حتى الآن.

تابع “هيكل”: هناك الموضوع الثاني وهو موضوع مهم هل العالم هينتظر تحت رحمة قوة أو قوتين تقرران له الحرب والسلام؟ في رأيي أن هذا الوضع كان موجودًا تقريبًا في كل فترات التاريخ وكان هناك دولة أو امبراطورية مسيطرة بشكل ما ولقد رأينا في التاريخ “السلام الروماني” يعني فرض الأمر الواقع للامبراطورية البريطانية.. الآن احنا موجودين في عصر فيه دولتين أقوياء لكن هذا العصر بيدي فرصة الحركة للدول الصغيرة عن العصور السابقة، حقيقي أن القوة موجودة عند طرفين فقط ولكن الطرفين ليس فيهم طرف واحد له الحرية المطلقة في استعمال قوته لأن القوة الذرية من القوى التي لا يمكن استعمالها بسهولة وهذا الوضع أعطى المزيد من حرية الحركة للشعوب الصغيرة.

أم كلثوم: أرجو أن تتحرك الشعوب الموجودة في الأمم المتحدة وأن تثبت وجودها أمام القوة التي تمثلها دولة او دولتان.

هيكل: الشعوب تتحرك فعلًا وتثبت وجودها أمام الدول الكبرى في الأمم المتحدة لكن المطلوب أولًا أن كل شعب بالنسبة لقضاياه يكون قادرًا على الوقوف والصمود للتحديات وللعدوان. ما فائدة الأمم المتحدة لو كانت مصر على سبيل المثال قبلت الإنذار في سنة 1956 وكنا استسلمنا .. ؟ لو أن الأمم المتحدة اتخذت مائة قرار بعد قبولنا الإنذار ما كانش فيه اي فائدة أو نتيجة.. شعب فيتنام النهاردة هو اللي بيقرر إلى أي مدى الشعوب تستطيع الوقوف لأنهم مش هيقفوا معاها أكثر مما هو مستعد للصمود شخصيًا.

أم كلثوم: إذا ننتقل من الموضوع ده ونتكلم في مؤتمر القمة القادم هل هو تأكيد لمؤتمر القمة في الخرطوم أو شيء آخر؟

هيكل: في الواقع أنتي أجبتي عن السؤال.. هذا المؤتمر الاتنين في بعض.. هو تأكيد لمؤتمر قمة الخرطوم من حيث أنه روح المواجهة العربية المشتركة للوضع اللي احنا موجودين فيه ومن ناحية ثانية فهو يعتبر استمرارًا لما بعد مؤتمر الخرطوم.. مؤتمر الخرطوم أكد امكانية وقوف العرب وصمودهم ثم اتخذ مجموعة من القرارات المهمة ومنها الوصول إلى اتفاقية بشأن اليمن، ثم حدد موقفًا معينًا في امكانية الحل السياسي وقال العرب أننا لا نرفض الحل السياسي ولكننا لا نقبل الاعتراف بإسرائيل ولا المفاوضة أو الصلح معها ولا التصرف في القضية الفلسطينية لأنها ملك شعب فلسطين.. والآن العمل السياسي في الأمم المتحدة وفي غير الأمم المتحدة أنتج قرارًا معينًا ولو أن هذا القرار غامض وغير كاف ولكن ماذا بعد ذلك؟.

أم كلثوم: حقيقة هذا الموضوع يستحق المشورة بين كل الشعوب والحكومات العربية..

هيكل: يستحق المشورة بالفعل أولًا نعمل فيه إيه؟ وثانيا فيه إيه بعد كده. والمفروض قبل ما حد يتكلم وقبل ما ندخل في أي تفاصيل يكون عندنا تصور عام للتفاصيل اللي احنا مستعدين نخش فيها ثم أنها قضية لا بد أن تكون مطروحة.. إذا لم ينجح الكلام مع ممثل “يوثانت” واذا ثبت نهائيًا أن مشروع قرار مجلس الأمن غير كاف لمواجهة المشكلة.. ماذا يمكن أن يحدث بعد ذلك؟ وماذا يمكن أن يفعل العرب لأنه ليس من المتصور إمكان الانتظار طويلًا بالوضع اللي احنا موجودين فيه دالوقت، ويمكن القول أن المؤتمر الرابع في الخرطوم كان مؤتمر سياسة أما المؤتمر القادم فإنه مؤتمر سياسة وما بعد السياسة.

قالت أم كلثوم: إذًا المطلوب منا الآن هو العمل والصبر.. قال هيكل: مطلوب منا العمل والصبر لكن الاتنين لازم يربطهم وضوح الرؤية والناس تكون عارفة وفاهمة ما هي الصورة وما هي عواقب الأمور.

أم كلثوم: أعتقد أن كل العالم عرف وسمع وضوح الصورة من الرئيس جمال عبد الناصر في خطابه الأخير..

هيكل: المسألة أننا لابد أن نحافظ على هذا الوضوح باستمرار، والرئيس اتكلم من أسبوع أو عشرة أيام كلام واضح، وأنا بعتقد إن الناس تأكدت فعلًا من إمكانية الخروج من الوضع الحالي، ولكن المسألة كما قلت ضرورة متابعة هذا الوضوح، بحيث أنه لا يظهر في المناسبات فقط ويكون موجودًا دائمًا.

أم كلثوم: وباستمرار..

هيكل: طيب خلصت الأسئلة وخلصت دور الصحفية..

أم كلثوم: والله كنت عايزة أسألك كتير قوي..

هيكل: طيب تسمحي لي أمارس الدور الطبيعي وأعود إلى موقع الصحفي، وسؤالي: كيف استطعتِ إلغاء الفارق بين السياسة والفن؟ أعتقد أنك قمت بهذا الدور؟ والواحد يحتار فى أعمالك.. إيه فيها سياسة؟ وإيه فيها فن؟ إزاى تقدرى تعملي كده؟

أم كلثوم:  فى رأيي أن الفن والسياسة توأمان، يعنى مثلًا لما مصر أرسلت آثار توت عنخ آمون إلى باريس كان ده عمل سياسي، وعمل فني أيضًا، بمعنى أن الفرنسيين رأوا حضارتنا، وتبادلنا معهم الثقافة في نفس الوقت، وهذه هي السياسة.

هيكل: هذا المثال جزء صادق من الجواب عن السؤال، وأنا باعتبر أن السياسة بتستعمل الفن، زى ما السياسة بتستعمل الاقتصاد وأشياء أخرى، لكن أنتي عملتي حاجة تانية غير كده.. أقصد عملتي توافق بين العمل السياسى والعمل الفنى.. إزاي؟

أم كلثوم: لا أبدًا، ليس لي دور سياسي، ولكن يمكن دور مواطنة مصرية بتحب بلدها وبتعبر من خلال فنها عن وطنيتها.

هيكل: هذا صحيح وهذه إجابة معقولة عن السؤال، لأن السياسي هو أي إنسان تتعدّى اهتماماته حدود مصلحته الخاصة، ويحس أن مشاكل الآخرين وقضايا الآخرين تهمّه.. والعمل السياسي ليس منصبًا. إنما المنصب بيعطى للإنسان عندما يحس بقدرته على الخدمة العامة أكثر.