سيد محمود يكتب: الفيلم المرسوم.. ورد مسموم

نقلًا عن “الشروق”

حين وقف المخرج أحمد فوزي صالح على مسرح دار الأوبرا المصرية قبل يومين ليتحدث عن فيلمه “ورد مسموم”، الذي عُرض بمهرجان القاهرة السينمائي تذكرت على الفور ما قاله في إحدى المقابلات الصحافية الشاعر الأمريكي ألن جينسبرج عن شعوره لحظة كتابته قصيدته الشهيرة “عواء”؛ إذ قال: “اعتقدت أني لن أكتب قصيدة، بل ما أردت كتابته فحسب، من دون خوف، أطلق العنان لمُخيلتي، أفضح سريتي، أخربش سطورًا سحرية من ذهني الحقيقي استخلص فيها حياتي، وأكتب شيئًا لن يكون في وسعي عرضه على أحد، أكتب لأذن روحي أنا، ولقليل من الآذان الذهبية الأخرى”.

وفى أجواء ما بعد حركة 1968 الطلابية كانت هذه القصيدة التي ترجمها جمال نادر الشاعر العراقي سركون بولص، واحدة من علامات التغيير الكبير التي كانت تتحدى النظرة التقليدية إلى الشعر، وأظهرت بوضوح انتماء صاحبها إلى “الثقافة المضادة” التى أنتجتها حرب فيتنام وبلورت ما أسمته سوزان سونتاج الالتفات إلى آلام الآخرين، حيث الانغماس في الشأن العام، والسعي لخلق جماليات جديدة، لكن هذه الجماليات على حدتها لم تمنع الشاعر من إبراز اهتماماته الميتافيزيقية التى تجلت فى ديوانه “أنفاس العقل” الصادر عام 1978، وهو ديوان تشبع فيه أجواء التأمل الروحي، ولعل هذا تمامًا ما يمكن إدراكه في فيلم “ورد مسموم”، الذي ينطلق من طموح كبير لتأكيد هذه الجمالية الجديدة في طريقة التعامل مع الواقع الذي يصعب إنكار قسوته.

نرشح لك: ورد مسموم يفوز بجائزة خاصة من لجنة تحكيم ” الأفريقي الدولي”

الفيلم بطولة الممثلة الشابة كوكي، وإبراهيم النجاري، وصفاء الطوخي، ومحمود حميدة، ومأخوذ عن رواية بعنوان “ورود سامة لصقر” للكاتب أحمد زغلول الشيطي، شارك الفيلم بمهرجانات عديدة خلال 2018 منها مهرجان “روتردام” للفيلم العربي في هولندا، ومهرجان “كولونيا” للفيلم الإفريقى في ألمانيا، ونال العديد من الجوائز ومن المقرر أن يبدأ عرضه التجاري فى سينما زاوية اعتبارًا من بعد غد الجمعة؛ وفيه نتابع قصة عاملة النظافة “تحية” التي تعيش مع أمها وشقيقها “صقر” الذي يعمل في المدابغ وهو السند الوحيد لهذه العائلة التي تعيش بؤسًا لا حدود له وتنظر “تحية” لحضور شقيقها في حياتها باعتباره اختصارًا كاملًا للعالم فهو “السند” بكل ما تعنيه الكلمة، رغم أنها هي العائل الرئيسي للأسرة لأن الأخ والأم يعملان ضمن العمالة الموسمية.

‎وتتطور الأحداث في الفيلم ببطء مقصود حين يقرر الأخ البحث عن فرصة للسفر إلى أوروبا بطريق الهجرة غير الشرعية وهو ما تساعده عليه الأم وترفضه الأخت تمامًا بمواجهة عنيفة تتدفعها للإبلاغ عن رحلة هروبه لتستعيده من جديد، وتبذل “تحية” كل ما في وسعها للحفاظ على وجود “صقر” في البيت حتى لا يتركها وحيدة إلا أن حلم الخروج من “المدابغ” يظل يراوده.

ورغم الطابع التقليدي للقصة إلا أن طريقة سردها على الشاشة لا تمر عبر المسارات المعتادة، فقد اختار مخرجه سلوك المسار القائم على استعادة شغفه بالمكان القديم الذي قدمه في فيلمه “جلد حي”  عام 2011، وهو منطقة “المدابغ” لكن مع إضفاء صبغة روائية لا تكسر الطابع التوثيقي الذي يفضله المخرج، وإنما العمل على تنمية الشعور بسطوة وجوده، فلا يوجد في الفيلم ديكور بالمعنى المتعارف عليه، لأن المكان الواقعي يفرض حضوره وينتج الدلالات التي احتاج المخرج لتأكيدها، وما استجد على هذا العالم فقط هو حضور الممثلين ومعدات التصوير التي كانت تتحرك على عربات “الكارو” كما نرى في فيديوهات الدعاية للفيلم على مواقع التواصل الاجتماعي.

نرشح لك – بالصور: النجوم في عرض “ورد مسموم” بمهرجان القاهرة

ولا وجود كذلك للإضاءة السينمائية التي اعتدنا عليها، والسيادة كذلك للأصوات الطبيعية التي ينتجها المكان الباذخ الذي تبرز فيه سمة المكان الخبيث أو “الديستوبيا” التي تبدو على النقيض من “اليوتوبيا” الرومانسية التي تقدم نفسها كوسيلة للخلاص وتختلط في هذا المكان أنواع شتى من الموسيقى الشعبية والصوفية مع أصوات المياه الناتجة عن مخلفات عمليات دباغة الجلود ويبرز فى انعكاساتها اللونية، ما يسميه نقاد الفن، اللون الخالد الذي اتخذته المدينة الحديثة بفضل قدرتها على إبراز قوة النفايات وصهرها، وداخل هذه المعادلة بقى لون المباني الرمادي وحده خالٍ من الاستجابة، هو لون السكون الذى لا يتأسى، وكلما ظل الرمادي داكنًا ازداد معه الشعور بـ”القمع الخانق” كما يشير مانليو بروزاتين في كتابه قصة الألوان.

وفي معالجته البصرية الاستثنائية أبرز المخرج تكوينات مرسومة بعناية فائقة وقف خلفها الفنان عادل السيوي، كمستشار للفيلم وأنتجت في نهاية الأمر جمالية فريدة من قلب المكان وعلى نحو يذكر بما يسمى في الأدب الواقعية القذرة dirty realism التي يمكن أن نعود في تعريفها للمقدمة التي كتبها المترجم القدير كامل يوسف لرواية حياة وحشية لريتشارد فور أحد أعلام هذه الكتابة، مؤكدًا فهمه للشعور الذي ساور الكثيرين بالصدمة حيال هذا النوع من الأعمال ‎ التي تستشرف أفقًا غير مألوف في النتاجات الماثلة أمامنا وعلى نحو غير معهود وأدوات لا يمكن إلا أن تثير الشعور بالصدمة حقًا؟.

وهذه الصدمة يمكن أن تفسر تعامل بعض النقاد مع الفيلم في عرضه الأول، فهو مربك جدًا في التلقي لصعوبة ما يسعى إليه، لكن ما قاله النجم محمود حميدة خلال كلمته قبل عرض الفيلم لتفسير مغامرة إنتاجه بعد توقف ما يقرب من عشرين عامًا عن الإنتاج صالح كذلك إثارة الدهشة، فالقيمة التي ينبغي دعمها دومًا هي المغامرة وقوة التعبير بلغة فنية شديدة الصراحة، لا تعكس شعورها بالدهشة إزاء العالم الذي تقدمه، وكما في أدب الواقعية القذرة التي يعرفها كامل يوسف يمكن أن يتحقق ذلك من خلال أبسط الأساليب السردية، التي تبرز الأحداث البسيطة والتي تطلب منا أن نكون شهودًا عليها؛ أما ما يبدو أنه يتحدث أكثر من غيره فهو ما لا يقال، ضروب الصمت، ألوان الحذف، صنوف الإلغاء ففي الفيلم تبقى علاقة “تحية” مع “صق”ر محاطة بغلالة من الغموض المقصود، محكومة بقوانين التواطؤ الذي يثير شغف المشاهد، ويقوده لاختبار أكثر من هاجس لفهم تعلقها بالشقيق صقر وهل هو تعلق محكوم برغبة مكتومة، أم هو استعادة لعلاقة إيزيس وأوزوريس أم تتجلى في الأخ تمثيلات الثقافة الذكورية التي تقول ضل راجل ولا ضل حيطة، أم هى علاقة فرويدية عن الأب الغائب؟.

لا يقدم العمل إجابة ويترك في ثناياه فجوات من الصمت المتعمد، لأن صاحبه يفكر دائمًا بمنطق الشاعر الذي يرى ما وراء تلك العتمة الباهرة التي يضج بها المكان، وإذا كان جوتة يقول إنه من المستحيل خلق شىء فاتح من عتمات كثيرة، فإن أحمد فوزي صالح يريد القول إن المخجل حقًا هو الإصرار على تجلي العتمة وإبقاء الفقراء وراء أسوار المدينة لأن من نراهم في الفيلم ليسوا مجرمين، يحملون السلاح ويتقاتلون مع بعضهم البعض.. الفقراء يعملون ويكدون وهم يعيشون وهم الحياة.

طارق الشناوي يكتب: “ورد مسموم”.. واقعية غليظة يعوزها السحر!

 

شاهد| أبرز لقطات حفل افتتاح الدورة الأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي 2018