أحمد مدحت سليم يكتب: علامات في "كتاب المواصلات"

صارت كل محاولاتي لكتابة مراجعة أو مقال عن أي عمل جديد “للأسطى والصنايعي” الكبير عمر طاهر، مجرد محاولات لا تصل لشيء، فكل كتاب من كتبه الأخيرة صار موسوعة متنوعة، في الموضوعات أو المشاعر أو العصور، وإذا أردت أنّ تكتب حولها كنت أمام خيار من خيارين: أنّ تريح نفسك فتكتب “الله.. عمل رائع” أو أنّ تقرر أنّ تكتب عن هذه الروعة بالتفصيل، فتجد أنّك ربما تكتب كتابًا أكبر من حجم كتاب عمر نفسه!!
 
 
الآن أنا مع كتاب “كتاب المواصلات”، وهربًا من مصيري إذا اخترت أحد الخيارين السابقين، سأقول أولًا: الله.. الكتاب رائع ولا بد لك من اقتنائه مهما كانت اهتماماتك، كتاب المواصلات الصادر عن دار “الكرمة” في صيف 2018 بقطع مميز وغلاف بديع من تصميم وليد طاهر، واختار المؤلف أن يضع له عنوانًا فرعيًا: حكايات شخصية لقتل الوقت، وهو عنوان عجيب لا يعكس ما في الكتاب من قيمة وإلهام أصيلين، ربما يقصد بذلك العنوان التدليل على بساطة المحتوى، وهذا حقيقي.
 
 
 
وسأقول ثانيًا، إنّني سأكتفي لعرض الكتاب بلمحة من لمحاته الثريّة، وهو ما سأطلق عليه العلامات في طريق الشباب.
 
 
الموضوع في الحقيقة أنّني أنشغل بلا رغبة مني في مشكلات هذا الجيل التائه، خاصة هذا القطاع المميز منه، والمسمى- مجازًا – “الشباب”، مجاراة لما يطلقه الناس في أوروبا والدول المتقدمة على أبناء هذا السن!!
 
 
وبالنظر للمشكلات التي تعترض سكة الشباب، أؤكد أنّ مشكلة هذا الجيل الحقيقية هي الشك، الشك في أنفسهم وفي كل شيء من حولهم، الشك في النجاح وفي التوفيق وفي الاستمرار في الحياة بذات الشغف، الشك في قدرة البلد على احتواء إمكانياته وإن لم يعرف هو نفسه ما هي الإمكانيات التي يملكها! الشك في قدرة الوالدين على قيادته لأي نجاح، الشك في العثور على الحب الحقيقي، ثم الشك في إمكانية تحويل الحب الحقيقي لزواج وعيلة، الشك حتى أنّ يقبل الله دعواتهم ورجائهم!! هذا الشك يلتهم من الضحايا الشباب أكثر مما تلتهمهم ثقوب سوداء أخرى، مثل الاكتئاب والفشل الدراسي ونقص المهارات اللازمة للعمل، الشك هو أصل كل رذيلة في الحقيقة، وكعلاج لهذ المرض لجأ البعض للعمل كضرورة إنسانية بلا رؤية ولا طموح، ولجأ آخرون لانتظار النجاح في ظل شجر البطالة، وغزل آخرون بطاطينًا من الأمل الذي لا ينتهي لأنّه لم  يبدأ أصلًا، ولجأ بعضهم للمخدرات ومشتقاتها مثل التنمية البشرية والعلاج  بالطاقة والألوان والديتوكسيشن كحل أخير!!
 
 
ولكنني  -مع احترامي لكل التجارب- لا أؤمن إلا بعلاج واحد للشك. هو “الإيمان والعمل”، وأقول علاجا واحدا لأن “الإيمان والعمل” لا ينفصلان إذا أردت أنّ تحارب الشك القاتل.
 
 
طبعًا ستفسر الإيمان على كيفك، أنت حر، ولكن لا بد لك من إيمان بأنّ لا شيء يدور بلا هدف وإلا لتهاوى الكون.
 
 
نعود لموضوعنا.. وهو “كتاب الحكايات” وعلاماته، يروي عمر طاهر في فصل “الحكيم والدليل والرجل الطيب” ثلاث قصص متتالية فيها الشفا.
 
 
الحكيم: عمر طاهر طالب جامعي يصاب بالشك والحيرة في آخر سنة له بالجامعة، هل يبقى في القاهرة أم يعود للصعيد؟ هل يعمل في بنك عقب تخرجه؟ هل يعمل أستاذًا في الجامعة؟ وكلما طرح السؤال على أحدهم يرد عليه: “هل تعرف ماذا تجيده بالضبط؟”. ولا يجد إجابة إلا أنّه يحب القراءة والكتابة، ولكن كيف يمكنه الاستفادة من ذلك؟ لا يعرف..
 
 
هنا تأتي العلامة الأولى، يجد الشاب الحائر مجلة قديمة في صالون الحلاقة، وفي المجلة مقال لدكتور حسين مؤنس أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية، ويجد في المقال: “إذا لم تكن أعددت نفسك لحرفة معينة تحبها، وأجهدت نفسك في الإعداد لها، كالطب والهندسة، وترى في نفسك موهبة وطموحًا وحبًا في العمل، فأنت في الغالب تحب أن تكون صحفيًا”.
 
 
يتساءل عمر عن السبب في وجود المجلة هنا فلا يعرف الحلاق! ثم يتساءل لما يكتب أستاذ التاريخ هذا المقال البعيد عن اختصاصه، فلا يجد إجابة، لكنّ روحه تمتلئ بالإلهام بعد أنّ وضع الحكيم حسين مؤنس قدم الشاب على الطريق بلا تدبير من أحد، إلا الأقدار التي تراقب هذا الشاب الطموح، ولكن إلى أين يسوقه الإلهام الخفي؟
 
 
الدليل: بسبب الاهتمامات الأدبية وبسبب ائتلاف الهوى بين عمر وعدد من الفنانين والمثقفين، تقوده الخطوات إلى “زهرة البستان”، يلتقي الأصدقاء ويستمع للشعراء ويتبادل الآراء، وبينما هو يدير الأفكار في رأسه ذات ليلة بحثًا عن بداية الطريق يهبط عليه أحد الشعراء الأصدقاء،“كان إبراهيم داود أحد أهم رواد زهرة البستان، شاعر كبير له طعم لم يخطئه الواحد يومًا، كان بشوشًا بما يكفي لأنّ يكون صاحب الخطوة الأولى في التعرف على وجوه جديدة تجلس في أي ركن من أركان المقهى منزوية صامتة”.
 
 
يلتقي إبراهيم داود بعمر في تلك الليلة، وحين يهم بالانصراف يعزم عليه بمرافقته إلى صحيفة “الدستور” ، والتي كانت وقتها انقلابًا شبابيًا في عالم الصحافة وسرعان ما أخرجت أسماءً كبيرة لمعت بشدة. يوافق الشاب الذي لا يملك مشوارًا آخر على مرافقة الشاعر إلى مقر الصحيفة، وفي مقر الصحيفة يلتقي الشاب بإبراهيم عيسى، ويقوم داود بالتعريف بينهما، ويمهد لالتحاق عمر بالصحيفة، قائلًا: هيلاقي له سكة والله كريم.
 
 
يتذكر عمر مقال مؤنس فيوافق على خوض المغامرة ويبدأ العمل، جذبته الأقدار من الحيرة إلى المقهى ومن المقهى إلى الصحافة، لكن يمر نحو ثلاثة أشهر دون أن يتمكن من تقديم خبر واحد، أو أنّ يشارك بفاعلية في مشاريع مشتركة يساهم فيها عددًا من الصحفيين، فيقرر أن يمنح نفسه أسبوعًا واحدًا كمهلة أخيرة!!
 
 
الرجل الطيب: في عام 1997 تقريبًا يقرر كمال الجنزوري رئيس الوزراء، أنّ يعقد اجتماعًا مع أحزاب المعارضة، ويعمل الصحفيون في الدستور بأيديهم وأسنانهم للحصول على تصريحات من رؤساء الأحزاب بشأن ما دار في الاجتماع لكن بلا فائدة، فقد اختار الجميع الصمت.. “سرحت عبر شباك الميكروباص، متخيلًا نفسي الصحفي الذي اخترق الحواجز كلها على طريقة عبد المنعم إبراهيم في (سر طاقية الإخفاء)، توقف الميكروباص عند أول فيصل وركب رجل عجوز يرتدي طربوشًا. نزلت أنا بعد محطتين، لكن الطربوش كان علامة!!”.. العلامة الثالثة تقود الشاب الذي لا يتوقف عن التفكير.
 
 
يذكّره الطربوش بأحد رؤساء الأحزاب الذين لا يلفتون أنظار الجادين من الصحفيين، لأنّ حزبه كان يعمل في السياسة إلى جانب قراءة الكف والطالع كما يقول عمر، ويخوض الشاب المغامرة فيكلم الرجل “أحمد الصباحي رئيس حزب الأمة” وهو يعرف أنّه لن يخسر شيئًا لكنه قد يكسب كثيرًا. وبالفعل حكى الرجل الذي لم يكلمه الصحفيين عن كل ما دار في الاجتماع. ويطير الشاب في الصباح فيكتب الموضوع ويقرؤه إبراهيم عيسى الذي يندهش ولا يصدق أن يتم الأمر بهذه البساطة، ويصر أنّ يعاود الصحفي المبتدئ الاتصال بالرجل أمامه، ويعيد الرجل كلامه ويضيف معلومات جديدة!! تنتهي المهلة التي أعطاها الشاب لنفسه ولكن..“صدرت الجريدة في آخر يوم في المهلة التي أعطيتها لنفسي، ولم يكن اسمي فوق خبر عابر في صفحة داخلية، لكنه كان مانشيت الجريدة. كانت العلامة أقوى من القدرة على تجاهلها”.
 
 
هاه.. هل ما زال عندك شك أنّ هناك من يقود خطواتك إلى أعلى السلم؟ فقط إذا تحليت بالإيمان والعمل..
 
كما لا بد أنّ تعرف أنّ الخطوة على طريق العمل مدعمة بالأمل والتوكل تساوي مئة خطوة. لذلك أقول لك اعمل واعمل، وثق أنّ النجاح قادم بلا شك، واستمتع بقصص ومواضيع رائعة أكثر في “كتاب المواصلات”.
للتواصل مع الكاتب اضغط“هنـــــا”