محمود عبد الشكور يكتب: "مسافر ليل".. التاريخ يُكرّر حُكّامه!

نقلًا عن “الشروق”

جيل آخر موهوب ومبتكر، يفهم نص صلاح عبدالصبور البديع، ويلتقط ما وراء الكلمات والشخصيات، فيقدم فى ساحة الأوبرا، وأمام مسرح الهناجر، مسرحية «مسافر ليل» من ديكور محمود فؤاد صدقى.

تنتقل الحكاية إلى عربتي قطار، تسمح بحضور بعض المتفرجين داخل القطار، بينما يوجد جمهور آخر خارج القطار، يتابع الرحلة العجيبة، وشخوصها الثلاثة، يصبح المتفرجون شهودًا على ملهاة ومأساة التسلط والقهر من كل الزوايا، ولا يمكن لأحد أن يقول إنه لم يسمع، ولم يرَ.

تمثل هذه المسرحية مرحلة النضج فى مسرح صلاح عبدالصبور، إنه يستفيد هنا من مدارس التجديد المسرحية، من بريخت إلى كتاب العبث، ويبدو قادرًا فى الوقت نفسه على التكثيف والاختزال، ومطوعًا الشعر لمنطق الدراما. كل مشهد يضيف ويغيّر، وصولًا إلى نهاية أقرب إلى سؤال معلّق، لدينا فقط راكب قطار ومفتش تذاكر ورجل يروى لنا ما يحدث، معتقدًا أنه فى أمان، مجرد حكواتى داخل القطار، لعله قطار التاريخ الذى لم يتوقف أبدًا، قطار لعبة القهر والخضوع، بين السلاطين والشعوب، واختيار الليل مناسب للغاية لملهاة تنتهى بمأساة، ولحكاية مسافر ينفذ فيه مفتش التذاكر عقوبة الإعدام، من دون ذنب أو جريرة.

نرشح لك: رأي محمود عبد الشكور في “حروب فاتنة”

تتضح براعة النص فى اكتشاف قسوة مفتش التذاكر تدريجيًا، فى تعدد ستراته ورتبه، وفى تعدد أسمائه (زهوان/ سلطان/ علوان)، وفى قدرته على التهام الحقيقة، ونقل الفزع إلى المسافر البائس، الذى لم يفعل شيئًا سوى قراءة كتاب عن الحكام الطغاة، ليخرج له الإسكندر فى ثوب المفتش، ثم سرعان ما نكتشف أن المفتش هو خلاصة سلاطين وحكام القهر، بينما يمثل المسافر خلاصة الذين رضخوا للقهر، فهو عبده سليل أسرة عبدون، وله ابنان: عابد وعبّاد.

يظن المسافر أن النفاق، وكلمات الخنوع، ستحميه من بطش المفتش، الذى يحمل كل أدوات القتل والتعذيب، ولكن المفتش يفعل ما يريد، من التهام تذكرة المسافر، إلى اتهامة بجريمة شنيعة لم يفعلها، يراقب الراوى ما يحدث، فلا يتحرك ولا يتكلم، وكأنه يتابع فيلمًا، حتى يجد نفسه مطالبًا بالمساعدة على نقل جثة المسافر، هنا فقط يخاطب الجمهور:

«ماذا أفعل.. ماذا أفعل.. فى يده خنجر وأنا مثلكم أعزل.. لا أملك إلا تعليقاتى.. ماذا أفعل؟!.. ماذا أفعل؟!».

يبدو كما لو أن التاريخ يُكرر حكّامه، البشر يأكلون أوراقه، ولا يستفيدون من تجاربه، لكل زمان مفتش تذاكر متسلط، تتعدد السترات والفعل واحد، والناس بين جبان ومنافق ومتفرج!

المسرحية رؤية مذهلة للتاريخ الإنسانى، لا تفرّق بين الإسكندر وهتلر والحجاج، تحلل بذكاء آليات القهر والخنوع، وتحصر عبارات التسلط عبر العصور، ويظل سؤال المسرحية يظل مطروحًا ما بقيت تلك الآلية قائمة فى أى مكان من العالم، وإن كنا سنعرف فى النهاية من الذى سرق قداسه الله، لكى يتحكم فى رقاب العباد.

تستوعب المسرحية بقطارها الذى يركبه الناس هذا المعنى، وجودهم فى العربات يجعلهم مشاركين وشهودًا، وسؤال الراوى يتوجه به للجميع، ورغم محدودية المساحة داخل العربتين، فإن محمود فؤاد صدقى نجح إلى حد كبير فى ترجمة صراع المسافر والمفتش إلى حركة، واستفاد من مقدرة ممثليه الثلاثة علاء قوقة، وجهاد أبو العينين، ومصطفى حمزة، فى تجسيد شخصيات الرحلة، كما استخدم الإضاءة بشكل معبر عن تغيرات لحظات الصراع، ونجح فى الانتقال بأجواء العرض، وبأداء ممثليه، من خفة اللعبة، إلى جدية المأساة.

نرشح لك: محمود عبد الشكور يكتب: فيلم “تراب الماس”.. رؤية كابوسية للفساد

ربما كان يمكن للموسيقى أن تكون أقوى فى إيجاد معادل صوتى لتصاعد المأساة، وربما كنا نحتاج إلى توظيف أفضل لمؤثر صوت القطار، ارتفاعًا وانخفاضًا، على مدار العرض بأكمله، وليس فى بدايته ونهايته فحسب، ولكن معنى النص، ولحظات السخرية والمأساة، وصلت بشكل جيد ومؤثر.

«مسافر ليل» تجربة تثبت قوة بصيرة الشاعر والفنان، وقدرة جيل الشباب على استلهام هذا التراث المسرحى العظيم، بطريقة خلاقةٍ ومبدعة ومبتكرة، علينا فقط أن نمنح الأجيال فرصتها، وحتما ستقدم لنا الجديد والمختلف.