سامح سامي يكتب: شاهين.. حبة الخردل

نقلا عن مجلة “الفيلم”

 افتتاحية العدد التذكاري عن يوسف شاهين

“أنا لا أرغب أن تكون أفلامي نوعا من المخدر الذي يسلي الجمهور لمدة ساعتين، ولكن ما أسعى إليه من خلال أفلامي أن يخرج المتفرج من صالة العرض وفي ذهنه تساؤل هو ماذا يريد أن يقوله هذا الرجل؟ هذا السؤال ما أبحث عنه في كل عمل أقدمه، فأنا رافض تماما عمليات غسيل المخ التي يتعرض لها جيل كامل حتى يصير الشخص مستعدا لقبول أي فكرة أو تنفيذ أي تصرف يطلب منه دون تفكير. لذا فقد أصبحت أتوقع الهجوم في أي وقت وعلى أي عمل أقدمه، ويبدو أن المسألة لم تنحصر في يوسف شاهين وحده ولكنها مأساة الإبداع الحر بشكل عام فهناك فئة ترفض التنوير وترفض مخاطبة العقول، وتريد مع المبدعين أن يكمموا أفواهم ويريدون من أمثالي تقديم الأعمال الهابطة التي ترضي الغرائز وتدغدغ الأحاسيس.. للكني سأظل أقدم الأعمال التي تناسب فكري وتكويني..”*

أنت أمام مخرج استثنائي، يشكل تجربة فريدة في تاريخ السينما المصرية، ملهم، كحبة الخردل فـ”هي أصغر جميع البذور التي على الأرض. لكن متى زُرعت ونمت تصير أكبر الأشجار حتى إن طيور السماء تأتي إليها وتحول أغصانها مسكنا لها”.

شاهين حبة تبدو صغيرة. لكنه صار شجرة كبيرة لطيور السماء، إلى الآن تتغذى من ثمارها. وهذا العدد من مجلة الفيلم، الذي أعتبره مختلفا وفارقا في مسارها، أتصور أنه نتاج ذلك الثمر الذي خلفه شاهين، ليس فقط عبر أفلامه المهمة والضرورية في تاريخ السينما المصرية؛ وإنما  عبر أرشيفه الخاص، الذي أتيح لنا بإذن خاص من أسرة يوسف شاهين، خاصة من الشقيقين ماريان خوري وجابي خوري، الشكر لهما ولكل الأسرة، التي تعاملت بروح فائقة الجمال، نفتقدها في المجال العام. وشكر خاص للأب وليم سيدهم اليسوعي وروحه الشابة المنطلقة نحو الجمال ودعم الفن والثقافة، وللأستاذ حسن شعراوي صاحب الحلم والمبادرة، الذي فكر منذ سنتين، قبل أن أتولى رئاسة تحرير المجلة، في إصدار عدد تذكاري عن شاهين، في الذكرى  العاشرة لرحيله، يخرج من أرشيف السينمائي الكبير، فهو المخرج الضرورة حسب وصف شعراوي. 

المدهش أن ما فعله شاهين في أرشيفه يوضح إلى أي مدى كان يفكر هذا الرجل، وماذا كان يخطط حتى بعد رحيله. يسجل جلساته مع الأديب يوسف إدريس ليخرجا للنور فيلم “حدوتة مصرية”، يعمل على توثيق كل ما يفعله. لا بد أنه كان يعرف _بوصفه نبيًا_ أنه بعد رحيله بعشر سنوات سوف تأتي مجلة ما، مثل الفيلم، تهتم بإتاحة أرشيفه العظيم للقراء، ولمحبي فنه، ولدارسي السينما، وخاصة للفئة الأخيرة، حيث لا يظهر عدد من المجلة لا نكون مهتمين بسؤال أساسي ماذا يفيد هذا العدد لدارسي السينما، ولصنّاع الأفلام؟ وظني أن هذا العدد يأتي متسقا مع إطلاق جمعية النهضة العلمية والثقافية “جزويت القاهرة” بدء الدفعة الحادية عشر من مدرسة السينما بالقاهرة، ومحاولتها أيضا لتأسيس مدرسة مجلة الفيلم التي تعني بالنقد السينمائي والكتابة للصورة، وصناعة الأفلام. وكذلك مع انطلاق التعليم المتطور لدفعة مدرسة أسيوط للسينما التسجيلية وإنتاج أفلام تليق بنا وبالجزويت.

نرشح لك :  كيف جمع القلب المفتوح بين “شاهين” و”أدريس”؟

ويأتي هذا العدد متسقا أكثر مع تجربة الجزويت في تعليم السينما، التي تحاول القول إن السينما الجادة يمكن أن تؤثر في الناس، وقادرة على التغيير. فيوسف شاهين هو النموذج المكتمل لرؤية الجزويت لتكوين فنان شامل جريء في التعبير عن ذاته وعن قضايا الآخرين، فمن ينظر لمساره يجد أنه حل “عقدة” الكلام المحبط، الذي يقال إن السينما البديلة، تغرد بعيدة عن الجمهور وعن التأثير. 

فسلام على النائمين

سلام على الحالمين

ببستان فردوسهم آمنين

سلام على الصاعدين خفافا

على سُلَّم الله   

* جزء من شهادة ليوسف شاهين منشورة في كتاب “سلطة السينما..سلطة الرقابة” لأمل عريان فؤاد، وكالة الصحافة العربية،1999.