محمد عبد الرحمن يكتب: يوسف شاهين.. ناظر مدرسة نفسه!!

نقلا عن “صباح الخير”

“أنا أرقص واتنطط وأفكر وأمثل أجدع من أي واحد فيكو”.. المولع بأفلام يوسف شاهين سيتذكر بسهولة متى ولمن قال هذه العبارة، غير أنها ليست الوحيدة التي عبر فيها شاهين عن رؤيته للفن الذي يقدمه، أو بمعنى أدق كيف كان يرى الحياة ويتعامل معها، حدث هذا سواء بلسانه شخصيا أو عن طريق أبطاله، شاهين قال هذه العبارة لعمرو عبد الجليل في مشهد رقصة مهرجان برلين الشهير من فيلم “إسكندرية كمان وكمان” الذي عرض تجاريا في مصر أغسطس 1990، والذي يعد من أبرز الأفلام التي كانت سببا في انطلاق الإسطوانة المشروخة التي تقول “مش فاهمين حاجة من أفلام يوسف شاهين” غير أن من يرى أفلامه دون أفكار مسبقة، ويستمتع بالاتفاق والاختلاف مع رؤاه سيفهم بالتأكيد فلسفة شاهين.

نرشح لك: 7 اتهامات طاردت يوسف شاهين

تلك الفلسفة التي جعلته أستاذا – من وجهة نظري- بلا تلاميذ، لأن ما حمله في عقله وروحه وحياته من أفكار وأهداف ورؤى من الصعب أن ينتقل كما هو ولو حتى جزء منه إلى فنان آخر، خصوصية يوسف شاهين جعلت من الواجب علينا بعد 10 سنوات على وفاته، أن نفرق بين “مساعدي المخرج يوسف شاهين” وبين كونهم تلاميذ قادرون على التحول لأساتذة كما كان هو أستاذا للجميع.

                                         نرشح لك: في ذكراه العاشرة.. 18 صورة من جنازة يوسف شاهين

ليس كل مسميات الصحافة وألقاب النقاد صحيحة، معظمها يورثه الصحفيون جيلا تلو جيل ويستخدمونه إما استسهالا أو غزلا في النجوم الجدد، عدد نادر من المواهب الصاعدة هو من يفطن للفخ مبكرا، حتى لو كان منصوبا بحسن نية، فخ تنصيبه خليفة لنجم قدير، أو تلميذا كبيرا في مدرسة مخرج أو سينارست شهير، لكن المعظم يحب الألقاب ويراها طريقا أقصر للوصول، لماذا أعتمد على نفسي حتى يحفظ الجمهور اسمي طالما يمكن أن يعرفني الناس بلقب خليفة الفنان فلان؟ لماذا أجتهد كي أقنع المنتجين بصلاحيتي كمخرج؟ مجرد أن يرى صوري على المقعد المجاور للمخرج الأشهر سيقتنع أنني أصلح للمهمة ويسند لي أول أعمالي.

                      نرشح لك – 21 تصريحا لـ منال الصيفي.. أبرزها عن علاقتها القوية بيوسف شاهين

إسقاط الوهم

نحن أمام ظاهرة سلبية لا تتبخر في الوسط الفني المصري، عدد قليل من المبدعين، عدد كبير مما يلتفون حولهم، معظمهم أبعد ما يكون عن شخصية هذا المبدع، غير أنه قبل الاستمرار في توضيح الفكرة، وتفاديا للاتهام بالرغبة في تشويه بعض ممن عملوا مع يوسف شاهين، أعود وأكرر أن المكتوب هنا وجهة نظر يريد قائلها التفريق بين أن تكون عضوا في فريق مخرج كبير ومتميز وله خصوصية، وبين أن تحصل مجانا على لقب “تلميذ الأستاذ” وتستخدمه حتى بعد مرور 10 سنوات على وفاته. كان ليوسف شاهين مساعدين بعضهم أصبحوا مخرجين كبار لكن دون أن يضاهوا مشروعهم نصف ما قدمه شاهين وبعضهم ظل محلك سر، والوقت وحده كفيل دائما بإسقاط الوهم الذي يعيشه البعض بأنه سيكون امتدادا للأستاذ، والمقصود بالامتداد هنا ليس تقديم أفلام تكمل سينما يوسف شاهين وإنما لأن الأستاذ كان حزمة متكاملة من المشاعر والأفكار والرؤى والذاتية التي من الصعب أن تنتقل لشخص آخر، التاريخ والتجارب الحياتية تقول ذلك، لكن ما تابعناه أيضا عبر عقود سواء في حياته أو بعد وفاته، أن أحدهم لم ينجح في التقاط الشفرة وتقديم تجربة تشبه ولو في ربعها ما قدمه الأستاذ، فمن الصعب أن “تتنطط” وتمثل وتفكر كما كان يفعل شاهين، الذي بات وكأنه ناظرا لمدرسة لم يتخرج فيها غيره لو كان شرط التخرج هو الحصول على 100 % من صفات شاهين.

كواليس المدرسة

في كتاب “أجيال شاهين” الصادر عن الدورة 32 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، يقول الناقد دكتور وليد سيف، أن مكتب شاهين لم يكن مجرد شركة إنتاج لصناعة الأفلام، ولكنه مؤسسة حقيقية وأكاديمية فنية لصناعة كوادر فنية ومهنية لا يتعلم فيها أحد على طريق التلقين أو ترديد النظريات، أو جمع المعلومات ولا يجلس الطلبة في انتظار الأستاذ الذي قد يحضر وقد لا يحضر فيفتحوا كشاكيلهم ويشرعوا في كتابة ما يمليه عليهم، ولكن الأستاذ أو جو – يواصل د.سيف- يحضر ليتناقش مع أصدقائه ومساعديه وتلاميذه وحوارييه وأفراد فريق العمل فتتولد من خلال هذا الحوار الأفكار وتنبت بذرة الأفلام وتتحرر العقول من الثوابت وتنطلق في عالم من الخيال بحثا عن ومضات من الإبداع من خلال التعرف على الآخر واكتشاف الذات .

على الصفحة نفسها وهي جزء من مقدمة الكتاب، يقول د.وليد سيف أن الفنان القدير الموهوب كان يعلم بذكايه ووعيه النادر وثقافته التي تشكلت مع مسيرته الإبداعية كيف تتحرك دفة الحوار وتنتقل الخبرات لتلاميذه وكيف يستخلص هو منهم صورة لواقع جيل جديد يتشكل يوما بعد يوم فتتحقق بينه وبينهم أرضية ثابتة من التفاهم والتواصل ويكون التفاعل سهلا وسريعا في مرحلة التصوير حيث لا مجال للنقاش والجدل.

هكذا وصف الناقد الكبير كواليس مدرسة يوسف شاهين، نرى من هذه الكلمات أنه لم يكن يبخل بشيء على تلاميذه – أو مساعديه حسب منطق هذا الموضوع – وهم أيضا لم يبخلوا بوقتهم وسنوات عمرهم الأولى واستثمروها في مدرسة “جو” للسينما والفنون والحياة، لكن حاجزا أساسيا لم يخترقه كل مساعدي يوسف شاهين، حاجز الوصول للطريقة التي كان يرى بها الحياة ومشروعه الفني والإنساني ولو حتى من أجل تحقيق مشروع مماثل أو منافس أو يطمح في الاقتراب ولو من بعيد لما قدمه شاهين.

شجاعة التعبير

ملامح شخصية وأفكار يوسف شاهين وصلت للجميع حتى الجمهور العادي، الرجل كان مقاتلا بطبعه، يعشق السينما ولا يتخلى عنها، كان يرفض الاتجاه للدراما، ولا أظنه كان سيغير وجهة نظره لو عاش عصر الفضائيات وسباق دراما رمضان، بالتالي لم يكن ليبتعد عن البلاتوهات لانشغاله بالسياسة مثلا، مع أنه كان منشغلا بالسياسة كل يوم، لكنها السياسة التي تقربه من الناس ومشاكلهم وليست سياسة الأضواء ولافتات الترشح وكتابة الدستور وسن القوانين، كان يعيش ليقول رأيه بالسينما أولا، وبالكلمة ثانيا، ونجح في تكوين شبكة علاقات توفر التمويل اللازم لأفلامه، صحيح جلب له ذلك انتقادات عدة، وقيل أن أفكاره تتأثر بجنسية الممول، لكن ما تأكدنا منه لاحقا أنه كان يختار ممولا متفق مع أفكاره هو لا العكس، حتى الطروحات الجريئة في أفلامه خصوصا الجنسية منها، كانت تعكس شجاعة في التعبير عن الذات، لم يهدف بها أبدا إثارة الجدل أو زيادة الإيرادات، كان يحب جوائز المهرجانات، ويعشق جمهور شباك التذاكر في نفس الوقت، يهوى التجريب ولا يتوقف أمام فيلم لم يعجب النقاد وخاصمه الجمهور، يبدأ بعده فورا في كتابة النص الجديد، لهذا قدم 37 فيلما طويلا، معظمها دخل تاريخ السينما وبعضها بات معروفا على المستوى العالمي، أفلامه القصيرة أيضا لا تقل أهمية وإن كانت أقل انتشارا بكثير، جائزة مهرجان كان 1998 ستظل أرفع جائزة حصل عليها مخرج مصري، جنازته في يوليو 2008 ستظل شاهدا على أن مصر يومها فقط روحا أصيلة من الصعب أن تتكرر، فالأصل يظل أصلا حتى لو التفت حوله مئات النسخ.

الذكرى الـ10 لرحيل المهاجر