محمد غنيم.. ما بين الروايات الشعبية وقلم محمد المخزنجي

رباب طلعت

“مع غنيم السعادة في مكان آخر” العنوان الذي اختاره الدكتور محمد المخزنجي، لكتابه الصادر عن “دار الشروق” عن الطبيب والسياسي محمد غنيم، الأشبه بسيرة ذاتية عن مصر، وليس فقط حياة أخصائي الكلى الفريد من نوعه، مصدر اعتزاز أبناء المنصورة، وإن لم يكن من مواليدها، لكنه أحد أعلامها، حتى إن مركزه المثالي للكلى والمسالك البولية، لا يعرف عامة الناس اسمًا له إلا “مركز غنيم”، حتى في نداء “تباعي” الميكروباصات، الذين ينادون على محطات مستشفيات الجامعة بـ”الرمد، الأطفال، غنيم، الباطنة”، ولا يُشار إلى الشارع الواقع فيه باسمه بل بـ”جهة غنيم”، فغنيم رمز باقٍ لا شخص زائل.

نرشح لك: تفاصيل ندوة كتاب “تسويق المنتج الثقافي في عصر الثقافة الرقمية”

ذلك الكتاب، كنت أجزمت من قبل قراءتي له بأنني لن أستطيع تقديم تحليل “عادل” له، بل هو شديد “التحيز”، لما يحتله “غنيم” من مكانة في نفسي، وما يُثيره الحديث عنه في عقلي من ذكريات وحكايات، كواحدة من أبناء مُحافظة الدقهلية، التي نشأت على تقديس سيرته، وتعظيم مسيرته، ومحبة شخصه، والنظر إليه كبطلٍ شعبي، تُروى سيرته في قرى المحافظة والمحافظات المجاورة، وليس فقط في مدينة المنصورة عاصمتها، ولكن سأحاول خلال السطور التالية كتابة ما يربط الأسطورة بالحقيقة.

“محمد المخزنجي مع محمد غنيم.. السعادة في مكان آخر”

عنوان الكتاب، وهو على الأكثر توصيف لمحتواه، فالكتاب انقسم لجزئين، الأول ما رواه “غنيم” عن نفسه، لـ”المخزنجي” خلال 12 ساعة متواصلة ومسجلة، فرغها عنه كل من الضو الصغير، وعلي حافظ من الأهرام المسائي، مع الحفاظ على تعبيرات “غنيم” اللغوية كما كشف الكاتب في المقدمة؛ والفصل الثاني كان تحليلًا لشخصية الطبيب الإنسان، أما “البحث عن السعادة في مكان آخر” هو ما ينكشف معناه خلال سطور الكتاب، قبل تأكيده في الصفحة الأخيرة منه.

“غنيم بيحب كل حاجة على المسطرة”

خلال العناوين الأولى في الفصل الأول، تحدث الدكتور محمد غنيم عن نفسه؛ ذكريات الطفولة التي بدأت بميلاده في القاهرة، ودخوله للمدرسة ومن ثم الجامعة، وتفاصيل كثيرة، بتواريخها الدقيقة، وأسماء الأشخاص الذين أثروا في تركيبته الشخصية والعلمية، دون الخوض في تفاصيل شديدة الخصوصية، فقط تفاصيل تظن للوهلة الأولى أنها تُعرفك كل شيء عنه، في مراحله العمرية المختلفة، لكنك بعد ذلك تكتشف أنك تعلم كل شيء عن تركيبة المجتمع المصري، خاصة “الأسرة المتوسطة” التي انحدر منها، والتحولات التي عاصرها أبناؤها، من حياة شديدة اليسر إلى حياة شديدة التحديات الآن، بالإضافة لكافة النواحي المؤثرة فيها من تعليم وصحة وتعاملات.

في تلك الصفحات الشخصية، السابقة للحديث عن “غنيم” الطبيب، والتي بدأت بالطالب محمد المتفوق دراسيًا، والمنضبط اجتماعيًا، والمهتم بالسياسة لا العامل بها، احتوت الصفحات على إجابات عدة، عن أسئلة تتعلق بشخصية غنيم، منها ما هو معروف عنه بأنه “بيحب كل حاجة على المسطرة” الجملة التي يرددها المرضى وذويهم، ممن لهم تجارب في “مستشفى غنيم” التي أسموها كذلك قبل اعتماد اسمها بطلبٍ من رئيس جامعة المنصورة عام 2016، حيث كانت رسميًا مركز الكلى والمسالك البولية؛ فذلك المركز المثالي الذي ترأسه “غنيم” لسنوات، ولم يغب عنه حتى بعد خروجه على المعاش، يُدار بدقة متناهية، ونظام كخلية نحل لا تكل ولا تمل، واهتمام بالتفاصيل يصل لما يتداوله الناس عن خصمه لممرضة نسيت ارتداء البالطو الخاص بها، أو ثورته على طبيب شاب أهمل مظهره الخارجي!

“تركيبة غنيم” كلمة شائعة بين أهالي المنصورة، حيث يرون أنه ليس إنسانًا عاديًا بل هو تركيبة مختلفة، تكشف الصفحات الأولى أيضًا عن سرها، فحب العمل والإخلاص فيه بل والانكباب عليه كان من والده، الهدوء والسكينة من والدته، الانضباط والتركيز في التفاصيل من “جون ميتش” أحد أساتذة الطب، والذي عمل معه في إنجلترا، واهتمامه بالرياضة المكتسب من زملائه في أمريكا، وصرامته وتدوينه لأدق المشاهدات الطبية، التي أورثها له الدكتور إسماعيل السباعي في القصر العيني، الرجل الذي ألهمه بالتخصص في المسالك البولية من شدة إعجابه به.

كواليس المعركة..

بعد عنوان “في المنصورة” إلى “ختام الخدمة وقضية العيادات الخارجية” يبدأ غنيم في سرده في الخروج من قالب السرد الذاتي الذي روى فيه متغيرات مجتمعية، وتحدث عن أشخاص أراد أن يوثقهم في تاريخه المكتوب، أكثر مما تحدث عن نفسه كطفل وشاب، إلى السرد المهني، أو كتعبيرٍ أدق “سرد تفاصيل المعركة”، فبناء مركز الكلى في المنصورة “الرمز”، و”الصرح”، بل و”المعبد” الذي يستلهم كل أبناء محافظة الدقهلية منه فرائض النجاح والعمل، لم يكن سهلًا، ولم تكن الأرض ممهدة أمام الطبيب الشاب، الذي بدأ الحلم بتحويل “قسم 4” إلى قسمٍ نموذجي “شبه بلاد برة”، وكما شاهد هو في تنقلاته العلمية من إنجلترا إلى أمريكا وكندا، وغيرها من دول العالم التي أراد نقل تطورها الطبي إلى بلاده، وفي أكثر الأماكن إصابة بتخصصه في المنصورة عاصمة الدقهلية، التي يعد أغلب أبنائها، من الفلاحين المصابين بالبلهارسيا وأمراض الكلى، نظرًا لتعرضهم للمياه الملوثة وغيرها من المسببات للمرض. وتحول الأمر إلى حلمٍ بإنشاء مستشفى تابعة للجامعة، ولكنها خارج مبنى المستشفى الجامعي، تكون على مساحة كبيرة تستطيع استيعاب الكميات الكبيرة التي تصل لهم، وإجراء العمليات الناجحة، وكذلك الاهتمام بالأبحاث العلمية فيها لخدمة المرضى، فكان “مركز غنيم”.

في تلك الصفحات، تظهر معركة حقيقية، مع بيروقراطية القوانين المنظمة للجامعة والمستشفيات الجامعية، ورفض الكثيرين للحلم، والعقبات التي تخطاها مع مجموعته، وليس بمفرده -كما يحب أن يصف رحلة الكفاح- وكيف استطاع التخلص من الإدارة التقليدية للمستشفيات الجامعية، ليدير مركزه كما يريد، لاستمرار نجاحه، وتفاصيل تطبيق الاشتراطات الصحية والأمنية اللازمة، لهذا الصرح، ما يُفسر الرواية الشهيرة عنه بأنه رفد إحدى الممرضات وحولها للتحقيق لأنها حاولت تسريب “ملاية سرير” من المستشفى كانت على وشك الحرق في المحرقة المتواجدة خلف المركز، ولكنها وجدتها سليمة وتصلح لمنزلها، ما أخل بالشروط الصارمة في المستشفى، والتي تصل إلى تغيير أغطية الأسرة 6 مرات يوميًا للمرضى، وإحراقها بعد فترة محددة، لضمان عدم انتشار أي عدوى للمرض، وهو ما يرويه أهالي المرضى لأقاربهم، بانبهار وفخرٍ، ويردده الكثيرون عن ذلك “الطبيب البطل الشعبي” الذي يلتزمون بقواعده “الصارمة” أثناء الزياة بخلاف ما يفعلونه في أي مستشفى آخر، لأنه “الدكتور غنيم”.

تكشف قصص الكفاح التي خاضها “غنيم” لإنشاء صرحه والحفاظ عليه طيلة تلك السنوات، عن سبب المكانة التي اكتسبها في قلوب الناس الذين لا يعرفون منها شيئًا، ولكنهم رأوا بعينهم صرحه العلمي، وحفاظه لسنوات على سمعته ونظافته بل وتطور خدماته بشكل مستمر؛ فالمركز كما وصفه “المخزنجي” في الكتاب، هو “قطعة من ألمانيا في الريف المصري”، فالمبنى المقام على حديقة شجرة الدر القديمة -والتي استلمها غنيم “قتيلة” وضحية للإهمال- أحياها بصرحٍ طبي، محيط به حديقة مبهرة. أتذكر في زيارتي الأولى لها، وعندما دخلت من البوابة الخارجية، أنني وصفتها بـ”الدخول إلى الفردوس” فلم أرَ من قبل الجنة على الأرض، وحتى بعد دخولي للمبنى، ظللت في الجنة، بألوانه ودقة بنائه، ونظافته، ورائحة المعقمات المنتشرة في كل مكان، ودكتور غنيم ذلك الرجل النحيل، النشيط، الذي يسير في المكان ينظر للأرضيات وللجدران ولكل الزوايا للتأكد من أن كل شيءٍ على ما يُرام، بالرغم من أنه خرج منه على المعاش!

في نداء السياسة.. غنيم هو الأصدق

“نداء السياسة المبكر” إلى نهاية الفصل، ظهر “غنيم” المهموم بالسياسة لا العامل بها، الذي يرى أن توفير لقمة العيش سياسة، والتعليم سياسة، والصحة سياسية، فعمل بنصيحة أحد أساتذة الجراحة الفرنسيين الذي نصحه قائلًا: “التغيير لا يأتي بالطب يا محمد بل بالسياسة”، فقرر أن يخرج برسالته الإصلاحية من مركز الكلى، إلى الساحة، خاصة أن ذلك أصبح واجبًا وطنيًا عليه، يجبره عليه التزامه الأدبي تجاه بلاده؛ ذكريات كثيرة، بدأت في الجامعة، ثم قراره بالاتحاق بالقافلة الطبية المسافرة إلى غزة لإسعاف مصابي الحصار والقصف، إلى المرحلة الحاسمة في نشاطه السياسي “ثورة الخامس والعشرين من يناير”.

“غنيم نزل معانا.. غنيم عند المحافظة.. أنتي مش فاهمة الناس ملفوفة حواليه إزاي.. إحنا صح!”… في الأيام الأولى من الثورة، كانت الرؤية ضبابية لدى الكثيرين وأنا منهم، فلم نكن نعلم هل هي ثورة؟ أم مظاهرات؟ هل نحن على صواب؟ أم خطأ؟ لم أستطع المشاركة في تجمعات المنصورة لتواجدي في إحدى القرى البعيدة عنها، لكن كنت على اتصال مع أصدقائي، طلبت من إحداهن العودة لمنزلها بعد إصابتها باختناق بسبب الغاز الكثيف، لكني لم أستطع تكرار الطلب؛ “غنيم في الميدان معهم” كما أخبرتني، إذن فالنصر لهم!

تلك القصة تلخص تأثير غنيم السياسي، والتفاف الثوار حوله، ومن ثم التفاف عامة الناس حول قائمة “الثورة مستمرة” التي نجحت في خطف المقاعد من الإخوان، الأكثر تنظيمًا وشعبية في القرى، في أول انتخابات برلمانية بعد الثورة، لكن لا أحد ينتصر على “شعبية غنيم”، فالفقراء، والأميين، و”الغلابة” اختاروا القائمة التي دعمها أملًا في أن تُصبح مصر “مركز غنيم” آخر، دون أن يدركوا ما سرده “غنيم” في الصفحات الأخيرة من الفصل الأول، عن كواليس الثورة، والبرادعي والإخوان، والدستور، ولجنة الخمسين، وحتى سبب جزمه للإعلامي محمود سعد بأن “السيسي” هو رجل الرئيس المقبل.

خجل غنيم في الحديث عن الذات

أكثر الأشياء التي بحثت عنها كثيرًا في الجزء الأول من الكتاب هو “محمد غنيم” نفسه، فالطبيب كان على قدرٍ كبيرٍ من الخجل في سرده ذكرياته وسيرته الذاتية، حتى إنه في السطور التي رواها عن نفسه، كان يروي عن الآخرين، عمن حوله، ومن يرد توثيقهم في التاريخ، ومن تأثر بلقائهم؛ أظهرت تلك الصفحات شغف غنيم بالأشخاص وإنجازاتهم وإن كانت بسيطة ودعمه لهم، بل وغضبه من نسب النجاح له بمفرده، فهو يؤمن بأن النجاح فريق وليس مجموعة، روى الكثير عن مجهولين بالنسبة للقراء والعامة، لكنه لم يروِ الكثير عنه، كما تأتي كل السير الذاتية، فكلماته كانت كثيرة التفاصيل، دون تفاصيل!

ذلك الأمر عالجه “المخزنجي” في الجزء الثاني الذي كان يروي هو فيه عن “غنيم” وعن كثير من القصص الإنسانية في حياته، حتى إنه أكد الرواية الشهيرة عنه بأنه يخرج من المستشفى لإيصال مرضاه الفقراء إلى محطة القطار ويقطع لهم التذاكر بنفسه بعد تنازله عن أجره في العملية لإيمانه بأن للفقراء حقًا في الشفاء أيضًا، كما سلط الضوء على أسرة الطبيب، زوجته وأبنائه، منزله الصغير، الذي لم ينتقل منه منذ زواجه، فالطبيب ليس ميسورًا ماديًا كما يظن البعض، لأنه أفنى حياته في خدمة الطب، لا الربح من ورائه. وكشف الكاتب عن أسباب ذلك وعن إجابة السؤال الذي يسأله الكثيرون من أبناء المنصورة “لماذا لم ينتقل غنيم للعيش في أحد الأحياء الراقية ككل أساتذة الجامعة والأطباء الأصغر منه سنًا والأقل مهارة!”، و”لماذا هو أحد أعضاء إستاد المنصورة، وليس نادي الجزيرة.. نادي صفوة المجتمع!”

ليس ذلك فحسب بل سرد الكاتب تحليله الشخصي لـ”تركيبة غنيم” المختلفة، وعن سر “سعادته” التي وصفها بأنها “في مكانٍ آخر” غير الذي يظنه الأكثرية، مؤكدًا أن ما ينطبق على حياته هو مقولة سوزان زوجة طه حسين بأن أمثالهما لم يُخلقا للبحث عن السعادة وإنما لأداء ما طُلب منه”، وهو ما يكشف سبب اهتمام غنيم بتفاصيل الحياة ومتطلباتها المرفهة، وعدم انبهاره بالماديات.