وليد رشاد يكتب: زمن الدشت الجميل!!

الكاتب الكبير “نجيب محفوظ” في كلمته التي ألقتها إحدى ابنتيه في حفل تقليده جائزة نوبل للأدب كتب يقول: “أنا ابن حضارتين تزوجتا في عصر من عصور التاريخ زواجاً موفقاً”، وكان يقصد الحضارة الفرعونية والإسلامية، وكذلك جيلنا من الإعلاميين أبناء حضارتين في مجال الإعلام والكتابة وهما الحضارة المطبوعة والحضارة الرقمية، بل لا يكون هناك قدراً من المبالغة إذا قلنا أننا بالتحديد أبناء تلك اللحظة التاريخية الفاصلة والتي شهدت ذوبان الفارق بين الحضارتين.

وأزعم أنني أدركت مبكراً أن قطار التطور التكنولوجي انطلق ولن يتوقف وكنت أفتخر في بداياتى بأنني واكبت ذلك التطور مبكراً وكتبت مقالاتي على الكومبيوتر الديسك توب! مستخدماً النسخة المتاحة وقتها من معالج الكلمات (وكانت بالطبع إمكانياتها لا تقارن بما عليه الان)، تلك الأمور التي صارت الآن من الكلاسيكيات المضحكة بعد أن تحول الجميع إلى الكتابة بل والنشر الإلكتروني، وصار فخري لا محل له من الإعراب، ولقد كان فخري وقتها نابعاً من أنني بدأت مبكراً ومعي القليل من الكتاب في توظيف التكنولوجيا في وقت كان السواد الأعظم من الكتاب يكتبون موضوعاتهم على ورق الدشت!!

ربما مصطلح الدشت في حد ذاته قد يبدو لعدد غير قليل من كتاب الجيل الحالي مصطلحاً فلكلورياً مضحكاً وربما أيضاً لم يسمعه كثير منهم من الأساس.. والدشت معناه اللغوي في معجم “الوسيط”هو جملة من الورق غير المرتب أو المهمل ويعتبرها المعجم كلمة دخيلة على اللغة العربية، بينما معناها فى معجم “مختار الصحاح” الصحراء ويذكر أن أصلها فارسي، ولا أحد يمكن أن يجد رابطاً موضوعياً بين الصحراء ودشت الورق إلا إذا كان فيلسوفاً واعتبر أن الدشت هو الصحراء التي يتوه فيها الكاتب حتى يجد أفكاراً جديرة بالكتابة.

والدشت هو نوع من أردئ أنواع الورق لونه يميل إلى الصفرة وهو عبارة عن الأجزاء المهدرة من ورق الصحف بعد تقطيعها وتهذيبها، وله قطع معين أو مقاس معين وملتصقاً بنوع من الصمغ (من أعلى الأوراق في الغالب) وكان يستخدمه الصحفيون عبر سنوات طوال، وذلك لأسباب متعددة منها رخص سعره مقارنة بأسعار الورق الأبيض الذي يطلق عليه الفلوسكاب المسطر، لأن الدشت متوافراً مجاناً (تقريباً) في معظم المؤسسات الصحفية، بالإضافة إلى قناعة أغلب الصحفيين نفسياً بأن الدشت أسهل وأفضل في حال الرغبة فى إعادة صياغة الأفكار أو إعادة كتابة الموضوع، فهو من ناحية رخيص الثمن ولا يشكل إلقاؤه في سلة المهملات المجاورة أر أعباء اقتصادية، ومن ناحية أخرى فهو يتميز بخفة وزنه وسهولة تمزيقه فى حالات النرفزة الصحفية عندما لا تطاوع الصحفي الأفكار، كما أنه “ابن حلال ويمكن كرمشته” ولا يأخذ حيزاً كبيراً في سلة المهملات.

ولم تقتصر تطورات صنعة الكتابة على إيجاد بديلاً إلكترونياً لملايين الأوراق، ولكن الصنعة نفسها اختلفت وأصبح لديك جيش من الوسائل المساعدة على الكتابة، بداية من معالج الكلمات الذي يعطيك إمكانية حصر كلمات الموضوع لحظة بلحظة بدلاً من العد التقليدي، ويمكنك من التدقيق اللغوي والترجمة وبالطبع سهولة تصويب الأخطاء دون شطب أو تمزيق أوراق، علاوة على الاستفادة من نتاج التزاوج بين تكنولوجيا المعلومات والإتصالات والتي أضافت مصادر معرفية هائلة، تمكن أى كاتب من الإستعانة بمعلومات أرشيفية مدققة (إلى حد ما) داخل موضوعاته.

وكذلك فإن تكنيك الكتابة في حد ذاته اختلف مع دخول مجال الكتابة جيل جديد من الإعلاميين لديهم بعض الخبرات التليفزيونية، فتمكنوا من إضفاء مفاهيم المونتاج الإلكتروني على الكتابة الصحفية من حيث إعادة الصياغة وربما إعادة ترتيب الأفكار أو هدم الموضوع وإعادة بنائه من الأساس، بالإضافة إلى السهولة المتناهية في إرسال الموضوعات لمسئولي الديسك ومديري ورئيس التحرير عبر الإيميل بل وإمكانية مراجعة تعديلاتهم ومناقشتها أكثر من مرة عبر الفضاء الإلكتروني.

واعتبر نفسي محظوظاً لأنني استفدت من تلك المميزات الإليكترونية الهائلة لكننى أشفق على أجيال سبقتنا في مجال الكتابة الصحفية كانت تفعل كل شيء بمفردها وربما دون أي مساعدات خارجية، فهم كانوا يكتبون ويعيدون ترتيب الأفكار والموضوعات ورقياً، وكذلك يبحثون بأنفسهم فى المراجع ودوائر المعارف لإضفاء البعد الارشيفى على موضوعاتهم وكان بعضهم يصحح لغوياً بنفسه ايضاً، ثم يذهب لمقر الجريدة لتسليم الموضوع أو يرسله عبر التلغراف أو الفاكس أو يملى موضوعه الطويل عبر التليفون، وبعدها يدخل الموضوع مراحل طباعية فى منتهى التعقيد عبر صف الحروف الرصاصية لإستخدامها فى عملية الطباعة الميكانيكية الصعبة فى ذلك الوقت.

ورغم سهولة الكتابة مؤخراً إلا أن كل ثورة تكنولوجية لها مميزات وعيوب، وأبرز تلك العيوب السهولة التي دفعت ببعض الهواة والفهلوية لدخول مجال الكتابة اعتمادأً على سهولة القصة، حيث يكفيه تابلت أو لاب توب حديث لكى يعتقد أنه محمد التابعي في زمانه فكل شيء متاح له دون بذل أدنى مجهود، تلك الإشكالية أبرزت فوضى في المجال الإبداعى واختلط الحابل بالنابل، وكان نتيجة ذلك صعوبة المنافسة وصعوبة التمييز بين الحقيقي والمزيف لأن المعروض اكثر من المطلوب.

ولكن الإشكالية الأكبر ظهرت مع تكريس مصطلح يمكن أن نطلق عليه القارئ الذكي (فكما أن هناك أجهزة محمول ذكية اصبح هناك قارئ ذكى)، يستطيع أن ينقدك فى لحظة قراءته لموضوعك كما يمكن أن يعترض على دقة معلوماتك أو يناقشك فى تفاصيل أرشيفية فى منتهي التعقيد وذلك عبر تعليقات فورية، وليس كما كان الحال قديماً حينما كان القراء طيبين وكبار الصحفيين فى أبراج عاجية لا يستطيع احد أن يصل إليهم أو ينتقدهم إلا من خلال بريد المؤسسة التى يعملون بها، ذلك البريد الذي يمكن أن يتجاهل إنتقائيا ما لا يرغب فيه من انتقادات القراء، بعكس تعليقات هذه الأيام والتى يصعب السيطرة عليها أو توجيهها لأنها تلقائية وسريعة وربما قاسية.

والآن نعود لعنوان المقال ونسأل كتاب جيل الفيسبوك: أيهما أفضل بالنسبة لكم.. الكتابة على الوسائط الإلكترونية أم الكتابة على ورق الدشت؟!