محمد مصطفى أبو شامة يكتب: "كتاكيتو" في الساقية.. ومحبة لا تنتهي

كتبتُ هذا المقال قبل 6 أشهر، وسقط مني سهوًا وسط صخب الحياة وزحامها وصراعاتها التي لا تنتهي، ولأنني كتبته من أعماق قلبي، حسمتُ أمري، وقررتُ أن أرسله وأهديَه إلى كل القلوب التي تقاتل من أجل أن تحتفظ بداخلها بمساحة بيضاء، تزرع فيها ورود الحب والحلم بألوانها الزاهية، لترسم لوحة مشرقة للحياة.

كان يومًا مؤثرًا في حياتي، استيقظت وقلبي (العجوز) يتراقص بشغف غير معتاد في سنواته الأخيرة، وأصابتني حيرة في اختياري لما أنوي ارتداءه لحضور حفل افتتاح مهرجان الساقية للأفلام القصيرة في دورته الـ14 التي عقدت يومي 19 و20 أبريل 2017، حتى حسمتُ اختياري بأن أستعيد بعض شبابي وأرتدي «تي شيرت» أبيض مع «جاكيت» زهري مع بنطالي «الجينز».

كنتُ قد تلقيتُ قبلَها بأيام خبر مشاركة الفيلم الأول لشقيقي الأصغر محمود في فعاليات المهرجان بسعادة كبيرة، حيث إن لجنة المشاهدة قد اختارت فيلم «كوابيس منتصف العمر» (الذي دُفِعتُ لكتابة السيناريو له بحكم الأخوة) مع 21 فيلمًا آخر من بين 58 فيلمًا تقدَّمَتْ للمشاركة في المهرجان، والفيلم مأخوذ من إحدى حكايات «زوربا في شبرا» كتابي الأخير الذي سطع وجوده على أرفف المكتبات مع مطلع عام 2017 في معرض القاهرة الدولي للكتاب، محققًا بفضل الله توزيعًا ورواجًا طيبًا.

تداعت الذكريات في رأسي وأنا جالس في قاعة العرض بجواري شقيقي وأبي وأمي وصغيري مصطفى، وتوقف الشريط عند أبريل 2003 (قبل 14 عامًا بالتمام)، وقتها كنت قد أكتب تجربتي الروائية القصيرة الأولى فيلم (كدبة أبريل)، بعد أن قررتُ مغادرة خشبة المسرح التي رسَّخَتْ عشقي للدراما، والتي قضيتُ عليها سبع سنوات، أتعلم من كواليسها داخل الجامعة وخارجها، مثلت وأخرجت في طريقي نحو التأليف الدرامي، وحصدت جوائز مختلفة ممثلًا ومؤلفًا، وكنتُ أتمنى أن أكمل رحلتي مسرحيًّا، لكن هوس السينما اختطفني، وبدأت محاولاتي الأولى بتشجيع صديق عاشق حقيقي للفن السابع، هو رفيق العمر «صاحب السعادة» المخرج محمد مراد نجل، الراحل أستاذنا ممدوح مراد الذي يُعدّ واحدًا من أهم مخرجي الدراما التاريخية في العالم العربي، الذي كان بيته وسهراتنا معه مدرسة خاصة تعلمنا فيها الكثير من فنون الحياة، وفي هذا البيت الفني وُلِدَت مشاريع كثيرة بيني وبين مراد الأب والابن، أنجزنا القليل منها وتعثر الكثير، وكان أكثرها نضجًا هو فيلم «أغنية الموت» الذي تحمس له النجم الكبير محمود حميدة، وبدأنا معه جلسات عمل على الورق عام 2002، قبل أن يختطفه المخرج يوسف شاهين، ليقوم ببطولة فيلمه «إسكندرية – نيويورك»، ويموت المشروع إكلينيكيًّا، ويسبب لنا إحباطاً كبيراً، وفي محاولة للمقاومة ولد فيلم «كدبة أبريل» من رحم الأحداث الصاخبة والساخنة التي تزامنت مع أيام سقوط بغداد، التي بدأت في 20 مارس 2003 وتفجرت في التاسع من أبريل عندما دخلت القوات الأميركية العاصمة العراقية.

كتبتُ الفيلم بكل جوارحي، وصببتُ فيه جام غضبي على هذه اللحظة الملعونة، كان وقتها الشارع يغلي والقاهرة تخرج عن بكرة أبيها في مظاهرات غير مسبوقة دخَلَتْ للمرة الأولى (في عهد مبارك) إلى ميدان التحرير، وتصاعد العنف مع بدء جلسات العمل بيني وبين صديقي محمد مراد للتجهيز للفيلم الذي قررنا أن ننتجه معًا، ويبدو أن الحالة العامة التي كنا نعيشها في مصر، وما كنا نمر به على مستوانا الشخصي قد جعل أعصابنا مشدودة، لهذا ومع أول خلاف دب بيننا اختطفتُ السيناريو وخرجتُ مقررًا أن أكتفي بصداقتي مع محمد مراد، وأن أنتبه لحياتي بعيدًا عن أحلام الدراما في المسرح أو السينما أو التلفزيون.

وألقيتُ بسيناريو أول فيلم مكتمل من تأليفي في سندرة الأحلام المؤجلة، حتى أذِنَ الله بخروجه للنور بعد أكثر من عشر سنوات، ليس كشريط سينمائي ولكن كجزء من كتابي «النصوص الممنوعة – حلاق مصر» عام 2015، الذي ضم نصَّيْن دراميين آخرين كانا يجاوران «كدبة أبريل» في السندرة ذاتها. ولم يمُتْ عشق الدراما خلال السنوات التالية التي أعقبت «سقوط بغداد»، وأدخلَتْنا جميعًا – معشر العرب – إلى نفق «السقوط الجماعي»، لكن تجمَّدَت الأحلام مؤقتاً مع وصولي إلى عقد «الثلاثين» من عمري، وما صاحب هذا من أحداث مصيرية في حياتي، مثل الزواج ثم دخولي إلى فضاء الإعلام السعودي عام 2004 ثم وفاة شقيقتي عبير (رحمها الله) بسبب إصابتها بسرطان المخ مع مطلع 2005، ثم ترحالي بين الرياض ولندن وصولًا إلى القاهرة من جديد، وفي 16 أغسطس 2007، حصلت على لقب «أب» للمرة الأولى، ومن يومها انقلبت حياتي.

وما بين 2007 و2017، جاهدت في أن أسرق بعض الوقت لمحبوبتي (الدراما)، وتراكمت مشاعري وترجمت إلى أعمال درامية معطلة، لم أجد الوقت الكافي لتسويقها بالشكل المناسب، بسبب طبيعة عملي الصحفي، فلديَّ 3 مسلسلات تبحث عن منتج هي: «رئيس التحرير»، و«إياك من حبي»، و«مقام صبا»، ومشروعا رواية وفيلم «الكوبانية» ينتظران الوقت حتى أتمهما، وهناك نص مسرحي يبحث عن فرقة تتحمس وتغامر في ظل اختفاء جمهور المسرح، وحالة التربص المستمر بالإبداع التي تخيم على مناخ الفن المصري، وأخيرًا عشرات الأفكار التي أظن أنها جيدة، توقفت عند مرحلة «القصة»، وما زالت تنتظر الفرصة لمزيد من التطوير حتى تخرج إلى النور.

وقفت بين فواصل الأفلام المعروضة في المهرجان، ألتقط أنفاسي أمام «كانتين» الساقية، وطلبتُ بعض القهوة وجال بصري يبحث عن شيء مناسب لآكله، وكانت سعادتي كبيرة عندما لمحتُ بين الحلويات، شيكولاتة «كتاكيتو» التي كانت دُرَّة تاج مصانع «الشمعدان» الشهيرة في الثمانينات من القرن الماضي، واختفت سنوات طويلة قبل أن تعود لتذكِّر جيلي بأحلى طعم وأجمل أيام، وقفت ألتهمها بفرحة طفولية تناسَبَتْ مع سعادتي بعودة الروح لحلمي مع الفن، نعم عودة الروح من ثقب قاعة (صغيرة) أسفل كوبري في الزمالك، ومن مهرجان لأفلام (قصيرة) يقل عمره، عن عمر مشروعي الفني، هذا المشروع الذي عاد ينبض من جديد مع «كتاكيتو» ليستكمل ما اتصل من محاولات، أملًا في ميلاد حقيقي لـ«واحد بيحب الحكاية».