محمد وليد بركات يكتب: إعلامنا وإعلامهم

منذ أكثر من سنتين، توسط أحدهم بيني مع بعض الشباب المصري حديثي التخرج من جانب، وبين قناة فضائية أجنبية شهيرة، تقدم خدمة إعلامية باللغة العربية، والتقينا فريق إعداد البرنامج، حيث دار بيننا نقاش حول اقتناع الشباب منا بحق الفتاة في السفر إلى الخارج أو التأخير خارج المنزل بدون داع، وبدون إذن الأهل أو إخبارهم، أسوة بالرجل، وقرأت نواياهم ورغبتهم في اصطياد النماذج المتطرفة، التي إما ترفض الفكرة جملة وتفصيلا، أو تقبلها بمنتهى الأريحية، وبلا أدنى غضاضة في سفر أخته أو زوجته مثلا إلى الخارج حتى بدون علمه!
 
قرأت النية الماكرة لدى فريق الإعداد، وعزمت على تفويت الفرصة عليهم، فأمسكت العصا من المنتصف، وباغتهم بأنني أسمح وبكل سرور لأختي أن تتأخر خارج المنزل حتى منتصف الليل إذا كانت في عملها بالمستشفى ولديها حالة طوارئ؛ لأن هناك ما يستدعي التأخير وجوبا، أما إذا كان التأخير بلا داع وبلا هدف، فلا أسمح به، لا لها ولا لنفسي، ثم انتقلت دفة الحديث إلى شاب آخر من مدينة بالدلتا، فذكر أن المدن الصغيرة تشيع فيها “السُمعة”، وأنه لا يمكنه السماح بتشويه سمعة إحدى أخواته بسلوك خارج الإطار القيمي للمجتمع، ثم جاء الدور على الفتاة الوحيدة بيننا، والتي أعربت عن رغبتها في السفر والخروج واكتشاف العالم، مشيرة إلى أن أسرتها – شبه الريفية- تمنعها، وأن المجتمع يفرض عليها قيودا.
 
وبعد مداولات سرية بين فريق الإعداد، اختاروا الفتاة لتكون ضيفا على مائدة الحوار، بينما جلست أنا والشاب الآخر بين صفوف الجمهور في الاستديو، لأجد أحد الدعاة الشباب، ممن يرتدون “الجينز” و”التيشيرت”، وكاتبة ومدونة معروفة باتجاه نسوي حاد، ضيوفا للحلقة إلى جانب الفتاة الزميلة.
 
بدأت المناقشات، لتكشف عن حجم انعدام التوازن بين الأطراف، فالداعية يمثل رأيا، والفتاة والكاتبة تمثلان الرأي الآخر، والمفاجأة أن المذيع تحيز للطرف النسوي، لتصبح المباراة ثلاثة مقابل واحد، وما زاد الطين بلة أن الداعية سقط في فخاخ الأسئلة الماكرة للمذيع، ليضعه على هيئة “الإسلامي العربي العنصري المتشدد” مقابل الرؤية المستنيرة للكاتبة، والتي دعمتها الفتاة بقصتها، باعتبارهما “ضحية” للمجتمع.
 
وكم كنت أتمنى أن أقطع حوارهم، لأكشف زيفهم وتلفيقهم، وكيف أنهم يضربون المهنية في مقتل، بمعالجة متحيزة منذ البداية، ونية مبيتة لتشويه صورة المجتمع المصري بإبراز الآراء المتطرفة، وتجاهل ما دونه من الآراء الموضوعية.
 
كم كنت حانقا عليهم لأن القناة نفسها لن تنتقد سلوكا ما في بلدها باعتباره من قيم المجتمع الأوروبي وخصوصيته الثقافية، من أعطى لهم الحق للتدخل في عاداتنا وتقاليدنا، من قال أنهم يملكون الحق والحقيقة وأنهم دعاة الفضيلة؟! هل لهم أن يتكلموا عن معاناة المرأة الفلسطينية في ظل الاحتلال الإسرائيلي؟! وفي النهاية.. خرجت الحلقة إلى النور، وصفق الجمهور، وانتهى الأمر كما دُبر له، ولم يفكر أحد في محاولات التغريب الضمنية، ولم ينتبه أحد إلى نزع ثقافتنا عنا، ذلك لأن الإعلام الغربي “صنايعي”، يعرف من أين تؤكل الكتف، وكيف يمكنه دس السم في العسل، يبهرنا بصورة جذابة، ولغة منمقة، وتكنولوجيا عالية، وسرعة في البث، وكثير من الصدق والدقة، ولكنه بين طيات ذلك كله، يضع ما يحلو له، ليس ثمة وسيلة إعلام في العالم ليس لديها مصالح سياسية واقتصادية تسعى إلى تحقيقها، وقيم ثقافية واجتماعية تسعى إلى نشرها، وأخرى تسعى إلى دحضها، حتى إعلامنا يفعل ذلك، ولكن المشكلة أن إعلامنا مكشوف الحركة، مفضوح الدعاية، ضعيف التأثير داخليا وخارجيا.