حسام حسين يكتب: الزيبق.. أزمة البحث عن نموذج

هي ليست أزمة إلا عند أولئك المعنيين بجسارة الاختلاف. وحين نتصدى لبحثها، قد نجد دلائل تشير لكون هذا على نفس الخطى، وذاك يريد أن يؤسس بصمته المختلفة، التي تبلور رؤيته الخاصة لموضوع؛ من تكرار معالجته بنفس الآلية، قد صار من المستحيل أن تنفلت منه، ولاسيما أن الدوافع واحدة في كل الحالات(رصد بطولة خاصة بجهاز المخابرات).

هو المسلسل الوحيد الذي تابعته من الجلدة للجلدة إذا جاز التعبير. وتابعته كي أصل لإجابة السؤال الصعب: هل وقع المسلسل في أسر النموذج{ الشوان/ الهجان/ الحفار/الثعلب} أم أنه قد حدث خروج، يضرب بمفاهيم النمطية في المعالجة الدرامية لهذه النوعية من المسلسلات؟؟

في حقيقة الأمر بعد الحلقة الخامسة لا أدري سببا واضحا للدعاء بالرحمة لصالح مرسي. فثمة فرق واضح بين الدراما الطبيعية، وتصنيع الدراما. فلقد ظهر من البداية أن المسلسل يدشن لجزء ثان، يمثل – في ظني- لحظة التنوير لكل عناصر الضباب والحيرة التي تصيبك وأنت تشاهد عن كثب تفاصيل الأحداث، رغم عدم يقيني في حدوث آفة التطويل، فللصدق لم أشعر بالملل، بل أزعم أن الزخم الدرامي الثري الذي ظهر كعناوين تومض وتختفي. زخم لم يُحسن صناع المسلسل استغلاله. بل وقد أذهب بعيدا إذا قلت: إن متعة المشاهدة كانت تتحقق بجلاء حال لو قام المشاهد بتقسيم المسلسل لشطرين.. شطر التفاعلات الاجتماعية للأسرة المصرية وظروفها. فهنا كنا نلمس المتعة والصدق، لكن عالم المخابرات الثري بطبيعته، ظل ينقصه شيء ما.

لست ممن يركزون على المثالب اللوجستية إذا جاز التوصيف، ولاسيما أن الـ 98 ليس تاريخا بعيدا. فالإصرار على ظهور التليفون الأرضي{بداية الأحداث}، وأجهزة الكومبيوتر الحديثة نسبيا، وموديلات السيارات قريبة العهد بالألفينات وما بعدها، أو تنامي ظاهرة وصلات الدش، واتساق هذه الظاهرة زمنيا مع الطقس الدرامي. أمور لم أتوقف عندها كثيرا. لكن هناك الكثير والكثير من الأسئلة المهمة التي لم تمنحني الدراما ما يشفي فضولي وشغفي.. لِم تم اصطياد “عمر” لإنجاز هذه المهمة؟ هنالك أتذكر معاناة “محسن ممتاز” ورحلته الشاقة كي يجد الشاب الذي يستطيع أن يحقق طموحه وطموح العملية التي تريد زرع جاسوس في إسرائيل. لكننا وجدنا ما يشبه الإسراف في عمليات المتابعة والمراقبة التي صارت مع خبرتنا كمشاهدين لهذه النوعية من الدراما أقرب لتأسيس صورا كاريكاتورية تثير الضحك بأكبر من كونها مؤسسة للإثارة{ النظارة السوداء/ الاختفاء خلف جريدة}. كذلك. حركة الممثلين المنتمين لجهاز المخابرات. فثمة فرق واضح بين كبرياء المهنة وخصوصيتها، وهذا الأداء المنتحل المثير للسخرية(المشية/ طريقة الكلام/ عبوس الوجه المُعبر عن الانضباط) تفاصيل لم ينفلت منها في ظني سوى”شريف منير” الذي كان يمثل استناداً لتراث عريض من التجربة، وبطبيعية أدهشتني فعلا. كذلك. كيف تم تأسيس شخصية”كامل” أخيه على هذا الشكل؟ وأين هو هذا الشاب العائد من العراق بهكذا ثروة في زمن الحصار والنفط مقابل الغذاء؟!

أزعم أن الدراما في الحياة تتسق مع نفسها استنادا إلى أقدار عفوية؛ لذا لا نستطيع اتهامها بالسذاجة، رغم أنها في كثير من الأحيان تنفلت من منطقيتها ولكن بعفوية أيضا. بيد أن صانع الدراما على عكس الدنيا، ملزم في كثير من الأحيان أن يصوغ مبررات ودوافع تنتصر بدورها لعفوية الدراما التي يريد طرحها على مشاهد غالبا متحفز. فقد نغفر غياب التبرير الكافي وراء اختيار “عمر” الذي لا يمتلك من المواهب غير أنه متخصص في تركيب كاميرات المراقبة . لكن ما سر هذه الحمى من الجانب الآخر وراء “عمر” بقصد استغلاله، ولنفس السبب. ولماذا لم يقل المسلسل حقيقة الدوافع وراء هذه العمليات التي تكشف عن زحام مخابراتي ممتلئ بالعمالة والتجنيد، والتجنيد المضاد. وهل كل من يكرهون البلد يؤسسون دوافعهم لخيانتها وفق هذا السبب، وهل كل مقهى في عاصمة عامرة بالمهاجرين.. لنا فيها رجل يعمل معنا؟؟

على الجانب الآخر من النهر، لم تنفلت الثيمات الدرامية من استغلال ما حاباه الله لـ”عمر” من وسامة. فاستطاع غواية المراهقة ابنة صاحب المقهى، و”مريم” الموظفة في مكتب”سارة” التي ترعى مصالح المهاجرين، ولا أدري على سبيل الجملة الاعتراضية: كيف تجاوزتها الدراما؛ كي تفصح في نهاية أحداث الجزء الأول أنها بديل”داني” رجل الموساد المهم؟

للصدق لا أستطيع على غرار مسلسلات أخرى أن أتهم صناع المسلسل بالتلفيق الدرامي، وإن كنت أميل لنعتها بالهشاشة الدرامية. وخاصة أن المحتوى لهذه النوعية من المسلسلات يستقر في ذهن المشاهد كونها أحداثا حقيقية، لذا فإن القرب الزمني للأحداث يؤسس لها كأحداث مخيفة، ومن السذاجة أن نسأل سؤال “عمر” كيف تقوم حرب مع السلام. فيرد”داني”: لا يوجد سلام أبدي. لكن معسكرنا الوطني إذا جاز التعبير يواجه معسكرا كبيرا ومتشعبا. { صديق الخال في صالة البلياردو/ مركز تجميل نهلة سلامة/ خطيبة كامل} تفاصيل ومفردات كان من الضروري أن تؤسس عالما طبيعيا، لأننا نرصد بشرا لهم وعليهم. نستبطن نوازعهم، ودوافعهم، عناصر قوتهم وضعفهم، لكن في سجال درامي متسق مع نفسه.

بطبيعة الحال لا أريد أن أتورط في الظلم، فأعظم ما قدمه هذا المسلسل أداء الممثلين. وفي الصدارة منهم كريم عبد العزيز والذي يجسد أدائه حالة من النضج الفني الكبير، وشريف منير الذي يجتر من خبرة السنين ما يعينه على دور أحسبه غريبا عليه. وأم “عمر” سلوى عثمان طبيعية حد البكاء. وكذلك سهر الصايغ “فاطمة” و”كامل” ياسر الزنكلوني. والخال السهل البسيط طلعت زكريا. وباقي الفريق، حتى في الظهور العابر للكبير هادي الجيار. أما عند محمد شاهين أو”سالم” أزعم أنه أكبر من الدور. لذا فقد أبتلع تفاصيل الشخصية كي يحيلها إلى مساحة كبيرة من التلقائية.

مؤكد هناك جزء ثان، أتمنى أن يأتي؛ كي ينتصر للجزء المخابراتي بنقلة نوعية تضرب النموذج المستقر في ذهن المشاهدين، الذين سيعقدون مقارنة أكثر عفوية بين التفاصيل هنا، والتفاصيل عند الهجان والشوان وغيرهما. وخاصة عندما يتقاطعون مع الشجن القادم من موسيقى العبقري”مودي الأمام” بنفس تعاطي عمار الشريعي – رحمه الله- وهو يداعب العود، حين يتذكر “عمر” مصر وأسرته، وأبنه، ومجده المتوقع.