إسلام وهبان يكتب: أمي المثالية

ثلاثون عامًا مضت، ولا زالت مشرقة، لم تكن تعلم أن القدر يُخفي لها بين صفحاته سطورًا لتنقش عليها أسمى معاني الصبر والقوة والعطاء المتناهي، وتبث في قلوب كل من يعرفها الأمل والبهجة والإصرار على الحياة.

لكلٍ منا قصة عن أمه، لا يمكنه أن يعبر عن كل ما فيها إلا عند الدعاء لها في سجوده، لكن قصة أمي، التي أراها وطني وملاذي، ليست مجرد قصة، بل أسطورة شاء القدر أن تشهدها العيون، وتتعلق بها القلوب.

أن يرزقك الله بطفل لديه إعاقة حركية، كما يُطلِق عليها الكثيرون، يُعَد امتحانًا صعبًا على كل أسرة، خاصة الأم التي تفني حياتها لترى وليدها أفضل مخلوق على وجه البسيطة، لكن أن ترى الأم جميع أبنائها مصابون بضمور في العضلات، ذلك المرض الذي تشهد فيه بأم عينها موت جزء تلو الآخر من جسم طفلها، يعد شيئا مستحيلًا، على أي أم كي تتحمله.

فوالدتي الأستاذة عفاف سالم، المعلمة بإحدى المدارس الإبتدائية، بوزارة التربية والتعليم، بعد أن فرحت هي ووالدي بقدومي إلى هذا العالم، وعاهدوا الله على أن يقدموا لي كل ما يسعدني ويوفر لي حياة كريمة، لم تُقدم لهم الأيام مزيدًا من الوقت لرؤيتي أجري وألعب مثل باقي الأطفال، فبعد أن تجاوزت عامي الرابع اكتشفوا أني مصاب بمرض ضمور العضلات، ولصلة والدي بالمجال الطبي، سعى هو ووالدتي، على مدار سنوات عدة، لعرض حالتي على أكبر أطباء المخ والأعصاب، للبحث عن علاج، ولكن جميعهم أكدوا لهم أن هذا المرض لا يوجد له علاج في العالم كله، والأصعب أن أخي الأصغر لديه نفس المرض، ولكن من نوع آخر يجعل أعراضه تتأخر نوعا ما.

سنوات تبحث أمي هنا وهناك عن حل، وكلما وجدت حالتي تزداد سوءا، تحاول أكثر وأكثر، لعلَّها تجد أملًا، لكن أحد الأطباء، لم يكتفِ فقط بمرضي، فحاول أن يجعل مني فأر تجارب صغير، وأعطاني كميات من عقار “الكورتيزون”، حسنت قليلًا من حالتي، لكنها سرعان ما قضت على عدد أكبر من العضلات، فانتهى بي الحال على كرسي متحرك، الأمر الذي جعل أمي تفقد الأمل تمامًا في الأطباء، بعد أن أجزموا أن هذا مرض يستحيل علاجه.

خلال سنوات البحث عن علاج، رغم معاناتي من المرض، إلا أن أبي وأمي لم يشعراني أبدًا أنني أعاني من شيء، فقد وفروا لي كل سبل السعادة والراحة، التنزه هنا وهناك، الذهاب للسينمات والملاهي، ومحاولة تقديم كل ما أتمنى، جعلوني أنسى من الأساس أنني على كرسٍ متحرك، والأهم هو ما غرسوه بداخلي من حب للحياة والتطلع لأن أكون الأول دائمًا، فطيلة حياتي الدراسية كنت من المتفوقين الذين يشار لهم بالبنان، جعلوني أرى من إعاقتي أنا وأخي الذي كان يتحرك حتى سن 16، حافزًا ودافعًا لتحقيق كل أحلامنا.

لم تكن الحياة وردية بالطبع، فلكي أحقق ما أريد، يتطلب الأمر منهم مزيدًا من الجلد والعطاء، فأمي لم تكن كباقي الأمهات توقظ أبناءها وتحضر لهم “الساندوتشات” قبل الذهاب للمدرسة فحسب، بل هي المسئولة عن النظافة الشخصية والملبس، الأمر الذي كان يزداد مشقة كلما زاد عمرنا، كما كانت تقوم يوميًا باصطحابنا إلى المدرسة ومتابعة مستوانا الدراسي، ولا ينتهي الأمر بنهاية اليوم والخلود للنوم، فحتى النوم يحتاج إلى متطلبات، تتطلب منها الاستيقاظ بشكل متتابع طوال الليل لرعايتنا، كل هذا العطاء تقدمه لنا بمنتهى الحب والحنان، دون أن تشعرنا بأننا عبء عليها أو أنها مثلًا لا تستطيع النوم والراحة كباقي الأمهات.

أتذكر جيدًا اليوم الذي فقدتُ فيه القدرة على الحبو أو “السحف”، وكنت وقتها في الصف الثالث الابتدائي تقريبا، حيث كنت أتحرك داخل المنزل على يداي وقدماي، ولم أقوَ يومها على حمل جسدي، حاولت يومها مرارًا وتكرارًا، لكن كل محاولاتي باءت بالفشل، نظرتُ إلى أمي وأنا أرى في عيونها نظرات كلها حنان وخوف علي ورغبة في البقاء، وهي ترى ابنها وهو يفقد قدرته على الحركة، ضمتني وقتها بقوة واختلطت دموعنا، ولكن شدة ضمتها أعطتني طاقةً رهيبةً على أن أعشق الحياة وأحاول أن أحقق فيها كل ما أتمنى، فكنت أحاول أن أكون الأول بمدرستي كل عام، كي أقدم لها ولو قدرًا بسيطًا من الفرحة.

لم يفكر والداي في الإنجاب لما يزيد عن 12 عامًا، خوفًا من المرض ورغبةً في توجيه كل اعتنائهم لي ولأخي، ولكن بعد أن أكد عدد من الأطباء أن نسبة إصابة الإناث بالمرض ضيئلة جدًا، فكرا في الانجاب، عسى أن يهبنا الله بنتًا تكون عونًا لي ولأخي، وبالفعل وهبهم الله بطفلة جميلة، جددت الأمل والألم من جديد، فبعد سنوات قليلة اكتشفوا أنها مصابة هي الأخرى بنفس المرض، وتكررت نفس المحاولات للبحث عن علاج، في الوقت نفسه، استطاع المرض اللعين أن يضع أخي الأوسط على كرسي متحرك، وكأن القدر أراد أن يعطي والداي قدرًا من الألم دفعة واحدة، أو بمعنى آخر وضعهم أمام الامتحان الأصعب.

دائمًا كان أبي ينظر إليِّ نظرة فخر بسبب تفوقي، وكنت أرى في عيني أمي نظرة إصرار، وكأنها تقولي لي “أكمل، ولا تجعل المرض يهزمك، فأنتم تستحقون الحياة”، لكنني دومًا ما كنت أتساءل “ما هو شعور أمي وهي ترى أبناءها الثلاثة ليسوا كغيرهم، وهي تخشى عليهم من المستقبل؟، وكيف أتت بكل هذا القدر من الصبر والتحمل والإصرار على أن نحقق أحلامنا؟”، فأنا أعلم جيدًا أن مشاعر الأم تختلف كثيرًا، فهي تشعر بالقوة والأمان حينما تجد أبناءها قادرين على الحياة بمفردهم، وهي ترى كلًا منهم قد شق طريقه وكوَّن أسرةً وحياةً خاصة.

رغم أن سنوات الجامعة كانت الأفضل في حياتي، إلا أنني لن أنسى تعب أبي وأمي وقدرتهم على جعلي أحضر معظم محاضراتي بكلية التجارة جامعة عين شمس، خاصةً أمي، فأبي رغم جهده الكبير، وقدرته على أن يوصلني للكلية ثم يهرول مسرعًا للذهاب إلى عمله، الذي كان يبعد حوالي 20كم عن جامعتي، ورغبته في أن أكون الأفضل دومًا، إلا أنه رجل وقادر على تحمل المشاق، لكن والدتي كانت تُكابد وهي تفعل ذلك معي أو مع أخي، الذي كنت أسبقه بعامٍ دراسيٍ واحد، جهد رهيب ونحن نحاول أن نركب المترو في الصباح الباكر أو وقت العودة، في محاولة لشق أمواج ألوف من البشر.

حتى بعد تخرجنا، لم يكن الحصول على وظيفة أمرًا سهلًا، فبالرغم من مساعدة والدايِّ لنا لكي نحصل على عدد من الكورسات في اللغة الإنجليزية والمحاسبة والبرمجة، إلا أن الشركات كانت ترفض دائمًا توظيفنا، بسبب الإعاقة، تلك الكلمة التي لم أعلم معناها إلا عند البحث عن وظيفة، ولا يمكنني أن أصف مدى معاناة أمي، لتوفر لنا وظائف تليق بتعب وجهد سنوات طويلة.

لكن وأنا على مشارف العقد الثالث من عمري، وقد تعلمت الكثير من الحياة، إلا أن معلمتي الأولى كانت أمي، فهي أول من علمني النطق، أول من علمني الكتابة، أول من علمني حب الحياة، وأول من علمني كيف يكون العطاء. فكما كانت أمنا “هاجر” تسعى بين الصفا والمروة؛ لتبحث عن الماء لإبنها إسماعيل، فإن أمي سعت ما يقرب من ثلاثين عامًا لتبحث لنا عن حياة نستحقها، فالآن هي جدة لطفلين رُزق بهم أخي، الذي يعمل مدرسًا، ولديه مشروع صغير، وأنا الآن أعمل محررًا صحفيًا، بالإضافة إلى عملي كمحاسب بإحدى شركات القطاع الخاص، كما أن الله قد رزقني بموهبة الشعر، التي أحاول أن أعبر بها عما بداخلي، ولازالت أمي تعطينا كل ما لديها من حنان وجهد، وتعتني بأختي الصغرى التي أوشكت على دخول “خندق الثانوية العامة”؛ عمرٌ من العطاء والمواقف والتحديات، لم أستطع أن أسردها أو أحكي عنها بشكل دقيق، ولم تسعفني الكلمات أن أظهر عظمة وجمال هذه الإنسانة، التي لم تقبل أبدًا أن يُكرِّمها أحد، معلقة وعينيها تلمع بالدموع “أنا أنتظر تكريمًا إلهيًا وليس تكريم البشر”، إلا أنني دائمًا وأبدًا أراها “الأم المثالية”.