موسيقى الجيل (1) | إلى أبي .. عنوان بيتنا زي ماكان - E3lam.Com

في ذلك الزمن لم تملك العائلات المصرية من سبل التواصل مع أبنائها المغتربين سوى رسائل البريد ، والمكالمة الدولية من السنترال – للقادرين فقط- ، ومعهما ظهر اختراع مصري هو شرائط الكاسيت المسجلة بأصوات الأهل والأحباب .

لم أبلغ عامي الثالث عندما كانت أمي تضع الكاست أمامي وتدعوني لأنطق ما أقدر عليه كي تصل كلماتي المعدودة إلى والدي في الدوحة ، فيرد هو بعد عدة أشهر بشريط آخر يحمله لنا أقرب رفيق عائد إلى مصر ، كانت المكالمات على القد ، والكلمات بالكاد لاتكفي مشاعر زوجان شابان تفصل بينهما الاف الأميال.

اعتادت أمي أن تختم كل شريط بأغنية تعبر عما تخفي النفوس ، إلا أن أغنية “عنوان بيتنا” لعلي الحجار ظلت عالقة في ذاكرتي حتى الأن ، شيء ما في تلك الأغنية ارتبط بصورة ذهنية ترسخت لدي حول علاقة أمي وأبي ، كبرت وظل سر الأغنية الوحيدة التي أحبها لعلي الحجار يطاردني .

التقيت بعلي الحجار فلم أجد لديه مايحكية ، صدمني رد مطرب كبير حول عمل أراه الأقرب لي كمستمع ، ويراه هو مجرد محطة هامة في مشواره ، ولكن علي لم يعترف أن الصدفة وحدها منحته نجاحا كاد أن يتخلى عنه باختيارات مُسبقة .

يحكي لي الموسيقار خليل مصطفى مُلحن الأغنية قصتها وابتسامة عريضة تتصدر كلماته : ثمة صداقة نشأت بيني وبين علي قبلها بسنوات عن طريق شقيقه أحمد الحجار ، تعاوننا في أولى أغنياتي “كان إحساس صحيح” ونجحت ، واستمر التعاون في البومه “ماتصدقيش” ، كنا نلتقي يوميا بحكم التحضيرات المستمرة وفي إحدى المرات سمعت كلمات أغنية عرضها عليه الشاعر محمد البنا ، كان مطلع الأغنية يقول :

عنوان بيتنا زي ماكان .. بس انت نسيت العنوان
ابعت واسأل وبلاش تتقل .. لحسن ناخد عالنسيان

يربط خليل مصطفى دائما بين الكلمة واللحن ، والرابط الأصدق هو الصورة ، وهنا يقول الرجل الذي لحن فيما بعد أقوى أغنيات المرحلة مثل السهرة تحلى ، الشمس الجريئة ، خالصين : بمجرد أن سمعت الكلمات تخيلت مشهداً لفتاة بملاية لف تسير في حارة شعبية بينما يغازلها شاب جالسا على المقهى مرتديا بدلة وطربوش ، وكأن طيفا زارني من أفلام حسن الإمام ليمنحني جملة موسيقية راقصة .

هل التقط علي الحجار الفكرة مستغلا طاقة النور التي أضاءت في هذه اللحظة ؟

يتابع خليل مصطفى : ” طلبت من علي أن ألحن الأغنية فقال أنه يعتزم اسناد تلحينها لأحمد منيب ، كان علي يفكر في شكل موسيقي جديد وجد ضالته لدى منيب الذي حقق نجاحات قوية مع محمد منير ، حتى أصبحت ألحانة النوبية موضة دفعت بموجة جديدة بعيدة عن الشكل الطربي الشرقي الذي احتل الساحة لعشرات السنين .

“لا أترك كلمة تعجبني دون أن ألحنها ، ولهذا أخذت الكلمات وقررت أن ألحنها لنفسي ، لكن النتيجة كانت أسرع مما أتخيل ”
طوال طريق عودته لمنزله بالمهندسين كان خليل يدندن كلمات الأغنية على الجملة الموسيقية التي عُرفت بها الأغنية فيما بعد ، ولكنه لايحمل عودا ولا كاسيت كي يغني اللحن ويسجله لحفظه من النسيان .

على كوبري أبو العلا صادف عازف الناي د.نبيل برجاس ، فطلب منه التوقف ليسمعه شيئاً ، جلس الإثنان على ظهر سيارة خليل الذي غنى ونبيل يعزف بالناي حتى حفظ الصولو والجملة الموسيقية التمهيدية ، وشيئا فشيئا حفظ الأغنية كاملة ، وانتهى كل شيء هنا .

بعد يومين اتصل علي الحجار بخليل مصطفى وطلب منه الحضور للاستوديو فورا ، وصل خليل فبادره علي قائلا : سمعني اللحن بتاع “عنوان بيتنا” .

يقول خليل : “دهشت من الطلب ، اللحن على ذمة أحمد منيب ولكن علي أصر ، وقال أن ماسمعه من نبيل برجاس أعظم من أي لحن قد يسمعه للأغنية ، وبالفعل لحنت الأغنية وحققت نجاحا كبيراً فتح أمامي مزيدا من أبواب النجاح ، فبعدها تعرفت على مدحت صالح وكان لنجاحي معه قصة أكثر طرافة “.

وكأن خليل مصطفى كان حامل توكيلات النجاح للأغاني التي صدرت في مطلع الثمانينات ، امتلك بين يديه شاعراً فذا هو رضا أمين وانطلقا ليشكلا ثنائيا ناجحاً ، في الوقت الذي عرفه فيه الشاعر مجدي النجار على مدحت صالح .

الملحن خليل مصطفى

للقصة بقية  :

كان مدحت معجبا بأغنية “عنوان بيتنا” حتى أنه غناها له في أول لقاء بينهما ، وطلب منه أغنية مشابهه ، فعرض عليه خليل أغنية مختلفة تماما هي “السهرة تحلى ”

يقول خليل : “طُفت على مطربي مصر أجمعين أنا ورضا أمين لنقنعهم بأغنية السهرة تحلى ولكن أحدا لم يجرؤ على غنائها ، حتى علي الحجار اعتبرها أغنية “كباريهات” ، كان مطلعها يقول” :

السهرة تحلى سوا سوا  .. والنسمة أحلى هوا هوا
هنغني غنوة سوا سوا سوا .. والسهرة تحلى

اقنعت مدحت بعد جهد ، وقرر غنائها على مسئوليتي ، فماذا حدث ؟

لم تترك الأغنية سيارة ملاكي أو أجره إلا وكانت قادمة منها ، انتشرت ونجحت بدرجة أدهشتنا ، أصبح مدحت مطرب الأفراح الأول ، وتسابقت الكازينوهات والفنادق على حجزه كفقرة ثابتة في برامج سهراتها ، كل الأصوات التي رفضت الأغنية عادت لتطلب واحدة تشبهها ، ولكن الرصاصة التي تخرج من المسدس لايمكن أن تعود له مجددا .

منذ الطفولة يستقر في ذاكرتي مشهد مدحت صالح وهو يغني “السهرة تحلى” في حفل زفاف أحد أقاربنا ، كان شابا نحيلا يرتدي بدلة سوداء لامعة ورابطة عنق حمراء ، ولكن الأغنية لم تستقر في الوجدان مثل “عنوان بيتنا” ، مازلت أدندنها ولم تعد أمي كذلك ، أما أبي فلم ينس العنوان يوماً.