هل محتوى "بوب كورن" يقتل الصحافة؟

خالد البرماوي

نقلاً عن النشرة الأسبوعية لمنتدى المحررين المصريين

لو أنك رئيس قسم في وسيلة إعلامية ما، فهل ستكلف المحررين بالعمل على قصص سريعة ذات عائدا كبيرا من ناحية المشاهدات وتفاعل الجمهور، أم قصص تستغرق وقت أطول وتناول أعمق؛ مع العلم أنها غالبا لن تحظي بنفس نسبة مشاهدات النوع الأول من القصص؟ هل نقول أن القرار محسوم؟!

ماذا إذا كنت رئيسا للتحرير، أو مديرا لقناة تليفزيونية أو مديرا للمحتوى الإليكتروني، ماذا سيكون القرار؟ لا تتسرع وفكر كثيرًا؛ وتذكر أن مدير القسم قد ينظر للأمور مثل من يقف في الغابة وينظر للأشجار من حوله، لكن بحكم كونك المسؤول الأول، فيجب أن يكون لديك نظرتين، الأولى: من أعلى لتتمكن من رؤية كامل المشهد، والثانية: نظرة من أسفل تتعلق بالتفاصيل.

وبين هاتين النظرتين، ومعهما عشرات اللمحات المتعلقة بإدارة ماكينة المحتوى، تخرج عشرات المعلومات بصورة يومية، في الواقع هي بصورة لحظية، والتي تعطي لكل مسؤول الفرصة لكي ينجح إذا قرائها بصورة صحيحة، أو يخفق إذا قرائها بصورة خاطئة، أو لم يقرأها من الأساس.

الكثير من وسائل الإعلام باتت تعتمد حاليًا على المحتوى السريع الخفيف، أو محتوى “بوب كورن” كما يطلق عليه، وهو منتج سريع التحضير، سهل في جلبه، وسهل في تقديمه وتناوله، فمن ذا الذي يقاوم صنع عشرات القصص وهو يعرف أن تكلفتها بسيطة، ومردودها المباشر سريع وعالي؟!

مثال: المحتوى الخبري المتعلق بعادات الجمهور اليومية مثل حالة الطقس، وحالة المرور، أو المتعلق بأخبار الجريمة أو أخبار المشاهير، والأنواع الثلاثة الأولى (Weather, Traffic, Crime) تعرف اختصارا بـ WTC، وهو محتوى في الأصل شبه مجاني، مستوحى من الكلمات ، لأن مصادره حكومية بالأساس، ومن مصلحتها نشره.

وقد يأخذ محتوى “بوب كورن” شكل التقارير السريعة، والتي غالبا ما تصاغ على شكل مجموعة نقاط يتم رصها، مثل: “10 نصائح قبل أن تتورط في شراء كذا”، أو “سر فوز لالا لاند بكل هذه الجوائز”، أو “السبب الحقيقي لإصابة أحمد الشناوي”، باستخدام ما يعرف بعناوين ” الاستربتيز”. وعندما تنقر على الرابط تجد موضوعا لا يحمل أي قيمة من أي نوع”

وقد تنزل لمستوى متدني يلتقط أي شيء من على الشبكات الاجتماعية، حتى لو كانت مشاهد القطط والكلاب، أو شاهد خناقة حريمي في الشارع”، أو “بالصور.. شاب يغتصب فتاة معاقة ذهنيا”. حدث بالفعل!

الحقيقة أن كل أنماط المحتوى السابق باتت تمثل في بعض التقديرات ما لا يقل عن 80% مما يبث يوميًا على أغلب المواقع والقنوات في أمريكا، وسنترك لكم تقدير نفس النسبة بالنسبة لسوق المحتوى في مصر والوطن العربي؟

البعض يعتقد أن انتشار هذا النوع من المحتوى، الذي يستهدف النقر على الروابط “Click-bait” بات يهدد مستقبل الصحافة، ونظرة الناس للصحفيين، خاصة عندما يتحول الأمر لمنظومة عشوائية تنشر دون ضوابط أو حدود مهنية أو أخلاقية خضوعا لمنظومة “الترافيك الحرام”، حسب وصف الكاتب علاء الغطريفي، في مقاله بالمصري اليوم.

والبعض ذهب بتشاؤمه لمدى أكبر من فكرة التهديد والتأثير على صورة الصحافة المحترفة لدي الجمهور، لفكرة أكثر خطوة وهي أن هذه الظاهرة قد تنهى على الصحافة ببرمتها، مثل يري الكاتب الأمريكي من أصل كندي جيفري دفوركن.

والذي يرى أن الثقافة الرقمية سيف ذو حدين، فهي وسعت من إمكانيات وصول المعلومات إلينا، وفي نفس ذات الوقت سهلت انتشار أشياء أخرى لا قيمة لها.

ويعتقد دوفوركن الذي عمل فترة مديرا لتحرير راديو CBC، أن هذا النموذج العشوائي دفع المؤسسات الإعلامية لخفض نفقاتها عبر استخدام محتوى يكتبه صحفيون لا ينتمون إلى مؤسسات صحفية، أو يعملون بشكل حر، ويقول “نرى مواطنون يلعبون دور المراسلين، بينما صاحب الخبرة والأقدم في المجال الصحفي يتم الاستغناء عنه!”

ورغم ما تحمله نظرة دوفركن من الكثير من الحقائق، لكنها قاسية بعض الشيء، فلا يمكن إطلاق أحكام عامة على كل القصص الخفيفة أو الترفيهية أو المحتوى المتعلق بالجرائم والطقس والمشاهير وأخبارهم، لأنه كان وسيظل ذو أهمية كبيرة للعديد من شرائح الجمهور، لأنهم في النهاية تنطبق عليهم بعض القيم الخبرية المتعارف عليها.

ومع ذلك لا يمكن أن يترك لها المجال مفتوحا لتحتل كامل مشهد الصحافة، ولا يجب أن يكون منطق “الجمهور عايز كده” ذريعة لنشر الأخبار المفبركة أو غير الدقيقة أو المضللة أو بعناوين تخالف أو تغاير المضمون في سبيل “الكليك”.

الخبر جيد، أن شرائح كثيرة من الجمهور في كل مكان بدأت تتشبع من هذا النوع المحتوى الركيك وتثور عليه، وبدأت كذلك تستطيع فرز المحتوى الجيد من السيء، وبات يتنامى لديها خبرة ووعي، صحيح علينا الاعتراف بأنهم ليسوا الفئة الأكبر، ولكن مساحة تأثيرهم جيدة وتتزايد، وهم دائما في حالة بحث عن محتوى “متكلف”.

وهذا يعنى، وباختصار أن المحتوى الخفيف الظريف السريع مطلوب ويناسب ايقاع العصر، ويناسب الكثير من اللمحات الخاطفة التي يعطيها الجمهور لهواتفهم أو لشبكاتهم الاجتماعية طوال اليوم، والتي كانت قد وصلت إلي 85 مرة في اليوم في 2015 حسب دراسة لجامعة بريطانية نشرتها جريدة دايلي ميل، ويقال أنها تتجاوز حاليا 120 مرة في اليوم!

ولكن هناك أيضا احتياج متصاعد لنوع أخر من المحتوى أكثر عمقًا، صحيح هو يستغرق وقتا أطول في اعداده وجهدا أكبر قبل أن يخرج للناس، ولكن لا يجب أن ننسى أنه يبقى أطول بكثير. وهو المحتوى العميق، والذي سنركز عليه في العدد القادم من “النيوزليتر”

 للاشتراك في نشرة المنتدى من هنا

للاشتراك في صفحة المنتدى على الفيس بوك من هنا