سامح سامي يكتب : السينما الإيرانية.. المجد للفكرة

(1)

يخططان لاخفاء خبر ضياع ” حذاء” زهرة عن أبيهما الفقير الذي دبر ثمنه بصعوبة بالغة. يتحدثان بالإشارة في حضوره. ثم تكتمل الخطة بتبادلهما لبس الحذاء المتبقى، حيث تذهب “زهرة” بحذاء “علي” في الفترة الصباحية، ثم تعود بسرعة حيث ينتظرها أخوها الذي سيأخذ منها الحذاء ليذهب للفترة المسائية. “علي” و”زهرة” يشكلان معا فيلم ” أطفال الجنة” لمجيد مجيدي.

“خسرو وشيرين” قصة ملحمية شهيرة، صاغها المخرج الكبير عباس كيارستمي في فيلم ” شيرين” في زمن ومكان واحد. قصة الحب المعروفة كانت في خلفية السياق البصري لممثلات إيرانيات جميلات ومعهن الفرنسية ” جولييت بينوش” وردود أفعالهن لما فعله كيارستمي في القصة الأصلية، التي تحكي قصة البطل الذي ظفر بثلاثة أمور أسطورية: مُغنٍ رخيم الصوت، وبجواد فريد، وحبيبة فاتنة الجمال تدعى “شيرين”، والتي ترتبط مع البطل في قصة حب. ثم يذهب خسرو في واحدة من رحلاته العديدة على ملك الروم سائلا إياه العون والمؤازرة للقضاء على التمرد الذي وقع ضد والده، لكنه يتزوج هناك من مريم أبنة القيصر. وفي التوقيت نفسه تنشأ علاقة حب أخرى بين نحات وشيرين، فيقرر خسرو القضاء عليه بمكيدة لئيمة. إذ أخبروه بأن شيرين قد ماتت بينما كان هو يشق الطريق الصخرية الوعرة، ناحتا من صخورها تماثيل لشيرين، لم يستحمل الصدمة فألقى بنفسه من حافة الجبل الصخري. حينما توفيت مريم زوجة خسرو أصبحت الطريق سالكة أمام شيرين كي تتزوج من خسرو الذي يمنحها هو الآخر حبا غير مشروط. لكن المكائد تظهر مرة أخرى فيقتل خسرو على يد أبنه من زوجته الرومية. وكنوع من الوفاء لزوجها تطعن شيرين نفسها بذات الخنجر
الذي طُعِن به زوجها خسرو، وتُدفَن معه في قبر واحد. وهنا لا تعرف هل نشاهد فيلما مأخوذ عن هذه القصة أم أننا داخل فيلم أخر لهؤلاء الممثلات اللواتي يشاهدن قصة الفيلم؟، فيلعب كيارستمي بنا.

“رحمات” فتاة كردية، تضطر للتنكر بهيئة صبي من أجل أن تنوب عن والدها في العمل، وهو عامل بناء تعرض لحادث تسبب في كسر رجله. وهناك الشاب الإيراني “لطيف” الذي يعمل في إعداد الأكل للعمال الذي أغلبهم من العمالة الأفغانية التي تعمل بشكل غير شرعي، تأخذ “رحمات” مكان “لطيف” في العمل، فيحاول الانتقام، وبعد عدة محاولات ينقلب حال “لطيف” إلى المحبوب المضحي بعد أن يعرف أن هذا الشاب هو ليس إلا فتاة أفغانية ذات شعر طويل اسمها “باران”، وهو عنوان الفيلم لمجيد مجيدي.

صوت طقطقة كتابة بطريقة “برايل”، تملء المشهد، ممزوج بصوت معلمة تملي الأطفال درسا عن شروق الشمس. من هؤلاء “محمد” في الثامنة من عمره الذي يقضي إجازته الدراسية مع جدته وأختيه ووالده الذي لم يرض في البداية أن يستلمه من بيت للمكفوفين، محاولا التخلص منه كثيرا. التخلص منه أخذ أشكالا عديدة. الوالد أرمل تعيس، يحاول خطبة فتاة من قرية مجاورة. لكن قبل موعد الزواج يغير أهلها رأيهم، ويعيدون له هداياه؛ لأنه يجلب ” الشؤم” وهذا يشكل صدمة له، ثم يقرر في لحظة ما التخلص من أبنه الكفيف نهائيا. الفيلم لمجيد مجيدي الذي أشرك الطبيعة وأصواتها والحيوانات الملتفة حولها معه في بطولة هذا الفيلم ” لون الفردوس”

(2)

هل السينما في مصر لديها قصص أو رؤيا مثل هذه؟

– لأ

– إذن مصر، رغم كل ما قدمته، فما يزال نحتها للسينما الواعية، والتي تستحق الاشادة عالميا، لم يأت بعد.

– هل هذا حكم جائر؟

– ربما

– لكن لننظر إلى السينما الإيرانية التي أخرجت أنوارا- مثل الأفكار السابقة- من رحم الرقابة، وأبدعت سينما شديدة الرقي من رحم “الخنقة الدينية”.

السينما الإيرانية تجاوزت آليات الفن والصنعة إلى الحراك الاجتماعي والوعي الثقافي والسياسي الذي ينطلق منه صناع السينما هناك، إذ لم يستسلموا مثلنا لأساليب قمع الحريات، ولم يركنوا إلى حجة المصريين الشهيرة ” هنعمل أية.. ربنا يسهل”.

لكن عظمة السينما الإيرانية لا تعتمد فقط على مواجهة الرقابة والتهرب منها، فهذه نظرة ربما مخلة لسينما شديدة الروعة. السينما في إيران تشترك في أمور واضحة: إنها إنسانية، وإنسانية عادية جدا. البعض يطلق عليها ” سينما الإنسان”. إنها سينما الشارع الإيراني، فهي قصص حقيقية لناس عاديين. أنت من خلالها عائش داخل الشاشة، لا تشعر أبدا أنك خارج المشهد، ولا تنشغل بإضاءة فجة هنا، أو صوت غير ملائم هناك، كثيرا ستسأل هل هذا تصوير أم مشهد حقيقي؟. سينما منخفضة التكاليف، وهي تجربة تهمنا هنا- جزويت القاهرة- في الأساس لهذا السبب في الأساس، أنك ممكن تعبر عن ذاتك وعن الآخرين بتكاليف بسيطة، لا تحتاج إلى شركات انتاج كبرى، أو هيوليود. إنها سينما المؤلف، وهي تركيبة إيرانية خالصة- طبعت أسلوبها الخاص بعيدا عن الظاهرة الفرنسية التي راجت في منتصف القرن الماضي- أن المؤلف هو المخرج، والمخرج هو الكاتب وصاحب الفكرة. إنها سينما تمجد الفكرة؛ لا تعتمد على بطل أو بطلة شباك. النص المكتوب هو الأساس في تلك السينما، التي نقدمها في مجلة “الفيلم”، ليس لاستنساخ التجربة هنا في مصر، أو لتقليدها. لكن لنقول إن هناك تجربة شديدة الروعة، فنيا وإنسانيا، يتم الاحتفاء
بها في أي مهرجان سينمائي دولي، تحصد الجوائز، وعلى صناع السينما في مصر التفكير كيف نهضت تلك السينما في ظل حكم ديني وسلطوي، كيف أهتمت بالهموم المحلية الإيرانية، وكيف تتبعت الإنسان وأزمته وأسئلته مع الوجود ومع الله.

ورسالة السينما الإيرانية هي أن الشعب دوما أكثر تحررا من السلطة، والتي مهما كانت غاشمة لا تستطيع أن تمنع الفنون والآداب.

ربما هي فطرة الفنان الإيراني، وربما قرأوا الكاتب العظيم ميلان كونديرا الذي له رأي -أو اكتشاف- حول عظمة الفنون والآداب، في كتابه ” فن الرواية”، الذي نقله للعربية بدر الدين عرودكي، ملخصه أن الفنون والآداب أنقذت الإنسانية، حيث يقول إن العلوم، نسيت كينونة الإنسان، فيما الرواية ابتداء من سرفانتس سعت إلى سبر كيان هذا الكائن المنسي.

(3)

ولعل هذا الوعي الإيراني – رجاء من البعض لا يقرأ هذا الكلام وفق خلفيته السياسية الضيقة أو الأمنية- ليس وليد اللحظة، ولا يرتبط زمنيا بتأثير الثورة الإسلامية في إيران؛ إنما بتراث إيران الثقافي الذي يتجذر إلى ما قبل ميلاد المسيح بثلاثة آلاف عام، والذي نتج عنه أيضا الأدب الفارسي الذي شاع في القرن التاسع الميلادي، وبالتوازي ظهرت الموسيقى الإيرانية. لذلك ليس غريبا أن تنتج إيران وتبدع في فن السينما الإنساني. والشعب الإيراني نفسه شريكا في هذا الإبداع؛ لأنه شعب ” مهووس بالسينما”، وهو ما يتميز به الإيرانيون، وتعجز عنه شعوب البترول، حيث ناموا وسكنوا للرقابة وللتابوهات الدينية والسياسية.

(4)

“لم أمتلك أبدا سيناريوهات كاملة لأفلامي، فقط خط عام وشخصية رئيسية في رأسي، ولا أبدأ في تصوير أي شيء إلا حين أجد هذه الشخصية في الواقع، حينها أشاهدها أثناء حركتها ومُعايشتها للحياة ولا أضيف على ما تفعله إلا بضع تفاصيل وملاحظات، لذلك فأنا أقترب من شخصيات أفلامي وأسافر عبرها ولا أجعلها تتحرك من خلالي”، شهادة للسينمائي الإيراني الكبير عباس كيارستمي (1940-2016).

إن السينمائي ليس مؤرخا ولا نبيا.. إنه مستكشف للوجود وللإنسان. وهذا لا يضرب المتعة في مقتل، كما تتصور الذهنية المصرية. لكنه الكسل، والخوف من التغيير، أو التخوف من السلطة، سواء الدينية أو السياسية. وأي فن يزعم أنه غير حامل لرسالة لا يعول عليه.

(5)

الكاتب المتميز حسن شعراوي يكتب مقالا، هو محور العدد، يقول فيه :” السينما الإيرانية.. لماذا؟”، ويعدد فيه أسباب اختيارنا لجعل السينما الإيرانية ملف العدد. وأود هنا شكره لمجهوده في إخراج ” مجلة الفيلم” حيث قام، وما يزال يقوم، بدور ” رمانة ميزان” لموضوعات المجلة. هنا أيضا أود تقديم شكري وإمتناني للصديق الكاتب هشام أصلان، الذي أحتفى بعدد المجلة الماضي ” الثورة والشعوب” في زاويته بموقع المدن الشهير، وكذلك صديقي الكاتب الصحفي محمد عبد الرحمن رئيس تحرير موقع ” إعلام دوت أورج” لاحتفاء موقعه البارز بمجلة الفيلم. الشكر أيضا موصول – وإن جاء متأخرا- للأب وليم سيدهم اليسوعي، الذي أحبه؛ لأنه أعاد مرة أخرى الفلسفة والفكر إلى المسيحية، والذي يؤمن بدور الفن والثقافة في التغيير، وكذلك للصديق يوسف رامز المفكر. وقائمة شكري وإمتناني تضم الدكتور وليد الخشاب، والناقدة المتميزة صفاء الليثي، فضلا عن أساتذتي وزملائي محرري مجلة الفيلم، الذين يطورون المجلة عددا وراء عدد ليليق بمطبوعة تتبع الجمال الإنساني في ثقافة الشعوب المتاحة عبر تجارب سينمائية.