9 مرات بكى فيها هيكل

خالد عبد الهادي- نقلًا عن أخبار الأدب

هذا فصل من كتاب “محمد حسنين هيكل‮: ‬معالم علي طريق طويل‮” ‬للباحث الأردني خالد عبد الهادي‮. ‬الكتاب الذي‮ ‬يصدر قريبا‮ ‬يتضمن سيرة إنسانية وصحفية للأستاذ‮ ‬الذي اختار بنفسه عنوانه قبل الرحيل‮. ‬

في أكتوبر‮‬2004‮ ‬ سألت الأستاذ هيكل‮: “‬هل ذرفت دموعك يوما سواء علي المستوي الشخصي أو المستوي العام؟

أجاب الأستاذ‮: ‬لعلي لا أبكي‮.. ‬يعني‮.. ‬لكن في بعض الأحيان النادرة جدا بكيت فيها لسبب عام‮:

1

‮المرة الأولى

‬ نكبة فلسطين

‬كانت المرة الأولي يوم الأربعاء‮ ‬20‮ ‬ أكتوبر سنة‮‬1948‮ ‬ وأنا أري الجيش المصري يستعد للانسحاب من مدينة المجدل‮ (‬شمال شرقي مدينة‮ ‬غزة والتي تبعد عنها‮ ‬25‮ ‬كلم‮).‬

وقفت علي سفح الهضبة العالية التي تقبع فوقها‮ ‬غزة‮.‬

وما زلت أذكر منظري في تلك الساعة،‮ ‬واقفا تحت شجرة علي طريق‮ ‬غزة‮ – ‬دير سنيد‮ (‬قرية فلسطينية شمال شرقي مدينة‮ ‬غزة والتي تبعد عنها‮ ‬12‮ ‬كلم‮).‬

ولم أشعر إلا وأنا أغطي عيني بيدي باكيا،‮ ‬أنهنه،‮ ‬وأذرف الدموع كأنها جمرات نار‮.‬

(‬استولت القوات الإسرائيلية علي تقاطع الطرق ما بين‮ “‬مستعمرة نجبا‮ ‬Kibbutz Negba” (تقع علي الطريق بين المجدل وبيت جبرين‮) ‬وحتي‮ “‬مستعمرة نتساريم‮ ‬Netzarim” (غرب قطاع‮ ‬غزة‮)‬،‮ ‬وهو ما يعني احتلال شمال النقب،‮ ‬وانقسام الجيش المصري لقسمين معزول كل منهما عن الآخر‮:‬

قسم في مدينة بيت لحم بقيادة القائمقام أحمد عبد العزيز،‮ ‬والقسم الثاني في مدينة المجدل علي الطريق الساحلي بقيادة اللواء أحمد المواوي‮).‬

 

2

المرة الثانية

حريق القاهرة

‬كانت المرة الثانية يوم السبت‮ ‬26‮ ‬يناير‮ ‬1952‮ . ‬يوم أحرقت القاهرة‮.‬

كنت في مكتبي في جريدة‮ “‬أخبار اليوم‮” ‬وخرجت فور سماعي خبر اشتعال القاهرة بالنار‮.. ‬إلي شارع فؤاد‮ (‬26‮ ‬يوليو حاليا‮) ‬وإلي شارع سليمان باشا‮ (‬طلعت حرب حاليا‮) ‬وإلي شارع قصر النيل وإلي شارع إبراهيم باشا‮ (‬الجمهورية حاليا‮).‬

كانت ألسنة اللهب في كل مكان،‮ ‬وكانت الفوضي هي التي تحكم وتملك‮.‬

الشوارع مغطاة بالرماد وبقطع الخشب التي ما زالت تشتعل والنار تسري فيها بعد أن أحالتها إلي فحم‮.‬

وعاد إليّ‮ ‬نفس الشعور الذي أحسست به في‮ ‬غزة‮.‬

حريق القاهرة كان البرهان الساطع لنهاية النظام الملكي كله،‮ ‬لكن لا التيار الليبرالي الممثل بحزب الأغلبية وقتها الوفد وباقي أحزاب القصر‮ (‬الهيئة السعدية،‮ ‬الأحرار الدستوريين،‮ ‬الكتلة الوفدية،‮ ‬والحزب الوطني‮)‬،‮ ‬ولا التيار الديني الممثل بحركة الإخوان المسلمين،‮ ‬ولا التيار الشيوعي الممثل بالأحزاب الماركسية الثلاث،‮ ‬جميعهم كانوا من الوهن والضعف من أن يفكروا بالاستيلاء علي الحكم وقلب النظام،‮ ‬كلهم توجسوا خيفة أمام المسؤولية والتصدي للشرعية،‮ ‬جميعهم ارتاعوا من الملك وجبنوا أمام قوة الاحتلال‮!‬

توقف الأستاذ هيكل لثوان قبل أن يكمل‮: ‬الحقيقة كل القوي كانت قد تآكلت،‮ ‬فالتيار الليبرالي تآكل بعد قتله مؤسس حركة الإخوان المسلمين‮ (‬حسن البنا‮)‬،‮ ‬والتيار الإسلامي تآكل بنكثه لعهوده،‮ ‬فمن حركة دعوية لنظام خاص قام بعمليات اغتيال وتفجير وترويع،‮ ‬والتيار الشيوعي تآكل بموقفه مما كان يجري في فلسطين فضلا عن ترؤس أحزابه كلها يهود،‮ ‬متحولا من آمال منشودة بعدل اجتماعي إلي ظنون شاردة بالترحيب بنشأة إسرائيل‮! ‬

‮(‬كان الأستاذ هيكل في الساعة الحادية عشرة صباحا داخل مبني جريدة أخبار اليوم لاجتماع إداري مع الأخوين أمين‮ (‬علي ومصطفي‮)‬،‮ ‬وأثناء الاجتماع دق جرس التليفون وكان المتصل الأستاذ أحمد حسين‮ (‬زعيم مصر الفتاة‮)‬،‮ ‬متحدثا مع الأستاذ هيكل‮: “‬قرأنا لك تغطي عواصم الدنيا شرقا وغربا،‮ ‬فانزل الآن إلي عاصمة مصر وشوف بنفسك‮”!‬

ثم دق جرس التليفون مرة ثانية،‮ ‬وكان المتحدث هو إدجار جلاد‮ (‬باشا‮) ‬صاحب جريدة الجورنال ديجيبت‮ ‬Le journal d’Egypte‮ ‬تصدر باللغة الفرنسية‮)‬،‮ ‬وهو من أبرز رجال القصر الملكي في تلك الأيام،‮ ‬مستفسرا من الأستاذ هيكل‮: “‬هل لديك علم بما يجري في شوارع البلد؟‮”‬،‮ ‬وقال له الأستاذ‮: “‬إننا الآن نتابع ويظهر أن هناك بدايات عنف‮”‬،‮ ‬وكان تعليق جلاد‮ (‬باشا‮): “‬يظهر أن المسألة خطيرة‮.. ‬خطيرة جدا‮”.‬

ونزل الأستاذ هيكل من مبني جريدة أخبار اليوم إلي شارع فؤاد ومعه زميله وصديقه الأستاذ محمد يوسف المصور الأشهر في ذلك الوقت‮.‬

وكانت المشاهد التي تنتظرهما مما لا يخطر علي بال أو علي خيال‮. ‬

فبعد الانتفاضة الشعبية،‮ ‬انقض السواد الأعظم يعرب عن نفسه،‮ ‬بزيادة اللهيب اتقادا،‮ ‬وبالسطو والسرقة‮.‬

حريق القاهرة كان تذمرا من الذين لا يملكون شيئا،‮ ‬ضد الذين يستحوذون وحدهم علي حق الحياة‮.‬

ولم يكن‮ ‬غريبا أن يتجمع هياج الحشود،‮ ‬علي دور السينما،‮ ‬وعلي الفنادق الكبري،‮ ‬وعلي المحلات الأنيقة في وسط المدينة‮.‬

‮(‬شاهد الأستاذ هيكل فتاة تسرق مضرب جولف‮)‬،‮ ‬ذلك كله كان طبيعيا،‮ ‬فقد كان انفعال الأكثرية علي محاولات إفقارها‮!‬

وهكذا أتاحت لهما الظروف متابعة حريق القاهرة من اللهب إلي الرماد،‮ ‬وكان بين من صادفهم الأستاذ هيكل وسط الدخان البكباشي جمال عبد الناصر‮. ‬فقد نزل مع‮ ‬غيره من الضباط إلي شوارع العاصمة المشتعلة بالنار بعد أن عجز البوليس عن السيطرة علي الموقف،‮ ‬ومن ثم اقتضت الأمور نزول الجيش‮.‬

 

3

المرة الثالثة

النكسة

‮ ‬كانت المرة الثالثة يوم الجمعة‮ ‬9‮ ‬يونيو‮ ‬1967،‮ ‬كان يوما طويلا مع الرئيس جمال عبد الناصر،‮ ‬بدأ من السابعة صباحا حتي السادسة مساء‮. ‬وكان الهدف الأساسي من المقابلة هو مشروع خطاب التنحي الذي سيقدمه للأمة بعد الأحداث المروعة التي‮ ‬غطت وجه منطقة الشرق الأوسط كلها بالنار والدم من‮ ‬5‮ ‬يونيو ولأيام عصيبة تالية‮! ‬

في الدقيقة الأخيرة من اليوم كان سؤال ناصر الأخير عن علاقتي بالسيد زكريا محيي الدين،‮ ‬وقلت له إنني لا أنوي تكرار ما قمت به معه،‮ ‬ولكني قابل تكليفه لي لمعرفتي بدقة الظروف حتي يتمكن زكريا من تسلم مسؤولياته‮. ‬

ونهضنا نحن الاثنان‮. ‬

وتصافحنا‮. ‬

ولمحت دمعة في عينيه لأول مرة في حياتي‮. ‬واستدرت خارجا من‮ ‬غرفة مكتبه،‮ ‬فلم أكن أريده أن يري دمعة أخري في عيني‮!‬

سألته بعد أن توقف‮: “‬ما قرأته عن تلك الفترة‮ – ‬نكسة‮ ‬67‮ -‬،‮ ‬يشي بأن كل شاعر ومثقف وأديب وراوي وقصاص تمزق وأصيب بالانكسار،‮ ‬إلا أنت،‮ ‬فما السر وراء ذلك؟

أجاب الأستاذ‮: “‬الرئيس ناصر وزوجتي هدايت كانوا كذلك،‮ ‬في حالة استغراب من تماسكي وصلابتي‮. ‬أنا وقتها كان في ذهني فيلم شاهدته ربما سنة‮ ‬1956‮ ‬بعنوان‮ “‬سوف أبكي‮ ‬غدا‮ ‬ I’ll »‬ry Tomorrow بطولة سوزان هيواردSusan Hayward ‮ ‬وريتشارد كونتي‮ ‬کichard »onte – إخراج دانيال مان‮ ‬Daniel Mann،‮ ‬وقد فاقت إيراداته وقتها‮ ‬7‮ ‬ملايين دولار‮) ‬وقصة الفيلم ليس لها علاقة بالحرب أو الصراع لكن العنوان جذبني،‮ ‬لاحظ بأنه كان عندي موقف في هذه الحرب وهو معلن،‮ ‬وقد استشهد به وزير خارجية إسرائيل وقتها أبا إيبان في مجلس الأمن،‮ ‬وهو أنني قلت إن قرار قفل خليج العقبة يعني الحرب،‮ ‬وقتها أيضا الاتحاد الاشتراكي قلب الدنيا واتهمني كالعادة بأني أثبط الروح المعنوية‮!‬

ومع ذلك،‮ ‬تستطيع أن تقول إنني كالباقي أصبت بحالة اكتئاب،‮ ‬ولكن وأنت تحتل منصب تحرير صحيفة،‮ ‬وأنت مسئول عن ركن الفكرة في ما تمثله ثورة‮ ‬23‮ ‬يوليو،‮ ‬وتنشر جريدة صباح كل يوم،‮ ‬وتكتب مقالا أسبوعيا،‮ ‬نعم فوجئت بما جري وحجمه،‮ ‬ولكن هل تنكمش وتقع وتنهار؟ بينما تري الناس تخرج وتتحدي وترفض نتيجة الصراع لحظتها،‮ ‬فلابد حينها أن تقف معها وتبشر بأمل جديد،‮ ‬خصوصا بأن هناك أسباب حقيقية لهذا الأمل الجديد‮.‬

ربما أنني كنت من الداخل ممزقا،‮ ‬لكن ما يثير حيرتي،‮ ‬كمية هذا الجلد للذات وللضمير المصري والقوة المصرية والإرادة المصرية لا لزوم له،‮ ‬فكل أمة من الأمم واجهت كارثة ومحنة من فرنسا إلي اليابان،‮ ‬لكن في وقت الأزمات تتحدد فيها مصائر أمم وشعوب لا تملك أن تترك نفسك للانفعالات،‮ ‬نعم كنت متماسكا،‮ ‬لأن هناك مقادير‮..‬

 

4

المرة الرابعة

نهاية عصر

كانت المرة الرابعة في أثناء اللحظة الرهيبة التي وقفت فيها بجوار فراش جمال عبد الناصر وهو يجود بالنفس الأخير‮.‬

لم أبكه لحظتها‮!‬

بل بكيته يوم تشييعه يوم الخميس‮ ‬1‮ ‬أكتوبر‮ ‬1970،‮ ‬لأنه كان رفيقا حميما وسيظل ظني به أنه ليس فقط إنسانا عظيما وإنما تاريخ عظيم أيضا‮.‬

وأتممت أياما بعد‮ “‬الرحيل‮” ‬لا أقدر علي التصديق،‮ ‬وأياما أخري أعقبتها لم أتمكن من التخيل‮.‬

هذه هي سفرته الأولي التي يذهب فيها ولا أكون في رفقته‮!‬

ثلاثة أيام انقضت بين لحظة الرحيل حتي هجع في مثواه الأخير‮.. ‬كفنا ابيض طاهر فوق فرشة من الرمال في قبر أقيم علي عجل خلف مسجد بناه بنفسه‮!‬

بدأت الجنازة من مجلس قيادة الثورة القديم علي النيل‮ – ‬قرب فندق شيراتون الجزيرة‮ -‬،‮ ‬وما أن طالعت النعش ولاحت لي حقيقة أن جمال عبد الناصر في جوف هذا الصندوق لم أتمكن من مغالبة نفسي‮.. ‬وأجهشت بالبكاء نأيا بنفسي خارج الصفوف رغم أني كنت المرافق الرسمي لرئيس وزراء الاتحاد السوفيتي أليكسي كوسيغين‮ ‬Alexei Kosygin ‮ ‬كان الأستاذ هيكل وزيرا للإعلام وقتها‮.‬

5

المرة الخامسة

مبادرة القدس

‮ ‬كانت المرة الخامسة يوم السبت‮ ‬19‮ ‬نوفمبر‮ ‬1977،‮ ‬يوم وصول الرئيس أنور السادات إلي القدس مساء،‮ ‬كنت قد‮ ‬غادرت القاهرة إلي الإسكندرية‮ (‬بلاج عايدة بالمنتزه‮) ‬لأبتعد عن مركز الحوادث منتهزا فرصة إجازة عيد الأضحي،‮ ‬لكن ما كان يجري له تأثير المغناطيس في قوة جذبة مهما حاولت الابتعاد،‮ ‬وهكذا وجدتني علي شاطئ ستانلي في الإسكندرية وأمامي طوال الوقت جهاز راديو أنتقل بمؤشره بين إذاعات العالم‮.‬

وأعترف علي استحياء أنني لم أتمالك نفسي حين سمعت إذاعة القاهرة تتحدث عن ترتيبات،‮ ‬وتقول أول ما تقول إن سربا من مقاتلات سلاح الجو الإسرائيلي سوف يخرج للقاء طائرة الرئيس السادات‮.‬

لم أتمالك نفسي ولا أعرف لماذا لحظتها،‮ ‬فإذا أنا أغطي عيني بكفي وأجهش في بكاء،‮ ‬ولم أستطع ضبط مشاعري إلا عندما أحسست بيد تمس كتفي في رفق والتفت لأجد طفلي الصغير‮ (‬حسن‮) ‬يرقبني بعينين تملؤهما الدموع والدهشة شاعرا أن شيئا ألم بي،‮ ‬ولكن مداركه لا تسعفه بتفسير لهذا الذي لم يعهده فيّ‮ ‬من قبل‮ (‬أنبته والدته السيدة هدايت ملتمسة منه أن يعود إلي ‮ ‬الكابينة‮).‬

توقف لبرهة،‮ ‬ثم استرسل في حديثه‮: ‬هناك من‮ ‬يقفز فوق التاريخ والصراعات والبشر والاقتصاد والسياسة والعالم والاستراتيجية بطريقة مرفوضة وغير مطمئنة‮.‬

وهناك جزء من العالم لا‮ ‬يهمه أمرنا في شيء راح‮ ‬يصفق له،‮ ‬وهناك جزء من العالم العربي‮ ‬يراقب ببلاهة وكأن الأمر لا‮ ‬يعنيه،‮ ‬والجزء الآخر‮ (‬مصر وغيرها‮) ‬مضلل في كل ما‮ ‬يحدث،‮ ‬كُتمت عنه الحقائق،‮ ‬كان انفعالي شديدا،‮ ‬وتدفق الاحتدام دموعا،‮ ‬دموع الإخفاق للأسف الشديد‮! ‬

6

المرة السادسة

النوستالجيا

‮ ‬كانت المرة السادسة‮ ‬يوم الاثنين‮ ‬28‮ ‬سبتمبر‮ ‬1981،‮ ‬كنت في سجن طره،‮ ‬جميعنا تقريبا عزم علي أن نحيي ذكري ارتحال الرئيس جمال عبد الناصر،‮ ‬كنوع من التصدي لكل ما كان جاريا‮. ‬كان الرئيس السادات أيامها في بداية النهاية،‮ ‬في الصباح سرت إشاعة بأنهم‮ ‬يجهزون معتقل جبل الطور في صحراء سيناء لترحيلنا إليه قبل المغيب‮.‬

في المساء تزاحم الخطباء‮ ‬يرثون الرئيس ناصر خلال قضبان سجن السادات‮.‬

كنت منذ بداية اليوم أشعر أن هناك دمعة مترددة تغشي باب العين،‮ ‬لكني لم أذرفها،‮ ‬ربما لأننا كنا نحيي الذكري كنوع من التصدي لا من الألم‮.‬

في لحظة من لحظات هذا اليوم تذكرت تفاصيل اليوم الأخير من حياة ناصر،‮ ‬وتذكرت آخر كلماته في آخر مكالمة تليفونية سمعت فيها صوته‮: “‬أنا بحاجة لاستراحة طويلة‮”.. ‬وآخر لمحة ألقيتها علي جثمانه،‮ ‬هي كلها تفاصيل لا تفارق الذاكرة ولا القلب لا في أيام الراحة ولا في أيام الأسي‮. ‬

لكن الذي لفت نظري ليلتها هو ذلك الاندفاع الذي حرض الجميع بإلحاح علي أن‮ ‬يتصدوا لكل ما كان‮ ‬يجتازه الوطن من أحوال بذكري ناصر‮. ‬فقد كان السجن‮ ‬يجمع رموز لقوي وطنية كثيرة‮ ‬ينتسب بعضها لما قبل ثورة‮ ‬يوليو،‮ ‬وينتسب الآخرون للثورة نفسها‮. ‬وكان‮ ‬يجمع كثيرين ممن تخاصموا مع ناصر،‮ ‬أو تنازع معهم،‮ ‬أو اختلطت أجواء الريبة علاقته بهم وعلاقتهم به والالتباس وربما المصادمات‮:‬

‮ ‬كان هناك إخوان مسلمون اشتبك معهم ناصر،‮ ‬وتنازعوا معه لحد محاولة اغتياله وقتله‮. ‬

‮ ‬وهناك وفديون‮ ‬ينتسبوا للحزب الذي أدان ناصر بأنه قد انتزع تأثيره التاريخي علي الشعب‮. ‬

‮ ‬وهناك‮ ‬يساريون زجوا للسجون في عهد ناصر،‮ ‬وها هم‮ ‬يدخلونه بعد رحيله دفاعا عن أفكاره‮. ‬

‮ ‬وكان هناك آخرون‮ ‬ينتسبون لمدارس فكرية أخري ولأجيال متعاقبة‮. ‬

لذلك أصغيت لكلماتهم في الإشادة بمآثر الرئيس ناصر بحفاوة،‮ ‬وكان المشترك ما بين ما تقوله كل هذه المدارس الفكرية المتباينة هو الإدراك بأن الأمة تاهت كثيرا مع اختفاء ناصر،‮ ‬وكان اتفاق هذه الرموز في سجن واحد هو إحدي علامات هذا الافتقاد‮. ‬عندها أحسست أن هناك سوء فهم تاريخيا قد جري بين هذه القوي كلها وبينها وبين ناصر،‮ ‬وأن هذا قد بدد فرصا علي الأمة والوطن لا تُعوض‮. ‬وربما أن هذه القوي استخلصت،‮ ‬وناصر حي وقيادته موجودة،‮ ‬قيمة حضوره وقيمة ما كان‮ ‬يمثله‮. ‬

7

المرة السابعة

دموع بلا رثاء‮!‬

‮ ‬كانت المرة السابعة‮ ‬يوم الثلاثاء‮ ‬6‮ ‬أكتوبر‮ ‬1981،‮ ‬ساعة أن أبلغني العقيد محمود‮ ‬غنام‮ (‬مأمور سجن طره‮) ‬والعقيد صلاح شلبي‮ (‬ضابط مباحث‮) ‬نبأ اغتيال الرئيس أنور السادات‮ (‬ربما بقصد معرفة رد الفعل‮!)..‬

استوضحت،‮ ‬وعندها لم أستطع أن أذكر إلا أنه كان صديقا،‮ ‬وإذا بالدموع في عيني تجري‮..‬

لقد عشت معه عشرين عاما كأصدقاء،‮ ‬أصغر أبنائي‮ (‬حسن‮).. ‬أنا أعرف كيف كان ضعف السادات تجاهه‮. ‬

‮(‬نشر الأستاذ هيكل في كتابه الصادر عن مركز الأهرام للترجمة والنشر سنة‮ ‬1993‮ “‬حرب الثلاثين سنة‮: ‬أكتوبر‮ ‬73‮ ‬السلاح والسياسة‮”‬،‮ ‬وثيقة تحمل شعار الدولة بها رؤوس موضوعات كتبها أثناء جلسة التحضير السياسي والإعلامي لحرب أكتوبر في استراحة كنج مريوط،‮ ‬ويلاحظ وجود عبارة‮ “‬حسن هيكل‮” ‬بخط‮ ‬يد الرئيس السادات‮!‬

ففي صباح‮ ‬يوم الأربعاء‮ ‬5‮ ‬سبتمبر‮ ‬1973،‮ ‬كان الأستاذ هيكل علي موعد مع الرئيس السادات في استراحة الرئاسة في برج العرب‮ (‬ساحل مصر الشمالي‮)‬،‮ ‬ومن ثم دعاه الرئيس إلي الركوب بجواره في السيارة‮ (‬طراز مرسيدس‮)‬،‮ ‬وراح‮ ‬يقودها بنفسه في اتجاه استراحة كنج مريوط‮.‬

طلب الأستاذ هيكل أوراقا ليكتب عليها ولو مجرد إشارات لما‮ ‬يمكن أن تسفر عنه المناقشات‮ (‬مجموعة شواغل سياسية وإعلامية كانت لا تزال حائرة في فكر الرئيس السادات‮)‬،‮ ‬وطلب الرئيس السادات حقيبة‮ ‬يده وكانت في سيارة الحراسة التي تتبع سيارة الرئيس‮. ‬وأخرج منها مجموعة أوراق تحمل شعار الدولة واسم الرئيس‮. ‬والغريب أنه لم‮ ‬يكن مع الأستاذ هيكل قلم‮ (‬من النوادر‮!)‬،‮ ‬وأخرج الرئيس السادات قلما وراح‮ ‬يجربه علي أول ورقة من مجموعة الأوراق التي أخرجها،‮ ‬واختار أن‮ ‬يجرب قلمه بكتابة اسم أصغر أبناء الأستاذ‮ (‬حسن هيكل‮)‬،‮ ‬وكان أقربهم جميعا إلي الرئيس السادات‮! ‬

8
المرة الثامنة

امتنان

‮ ‬المرة الثامنة حاولت جاهدا أن أحبس دموعي طيلة الأيام التي أعقبت نشر مقالي‮: “‬الاستئذان في الانصراف‮” (‬الثلاثاء‮ ‬30‮ ‬سبتمبر والأربعاء‮ ‬1‮ ‬أكتوبر‮ ‬2003‮)!‬

فقد فوجئت بتدفق المقالات في الأعمدة والزوايا الصحفية داخل مصر وخارجها من أصدقاء وزملاء مهنة وغيرهم،‮ ‬ممن أعرفهم وممن لم أتشرف بلقائهم ومعرفتهم،‮ ‬كالسيل المنهمر من فيضان المشاعر تطالبني بالعدول عن قرار الانصراف،‮ ‬وسأظل وفيا لجميلهم ما بقيت‮.‬

 

9

المرة التاسعة

لفحات الأحزان

وعلي المستوي الشخصي كان استفساري؟

أجاب الأستاذ‮: ‬الأقرب إلي ذاكرتي الآن هو‮ ‬غياب شقيقي الوحيد المهندس فوزي‮ (‬1‮)‬،‮ ‬رغم تجاربي الكثيرة مع لسعات الأسي،‮ ‬هناك من‮ ‬يتخيل أن ما‮ ‬يتبقي من المغادرين عنا في حياتنا هو بكاؤنا في وداعهم أو ذكرياتنا معهم‮!‬

ثم كان أن استضافت الإعلامية مني الشاذلي‮ ‬يوم الخميس‮ ‬7‮ ‬أبريل‮ ‬2016‮ ‬الدكتور المهندس أحمد هيكل‮ (‬الابن الأوسط‮)‬،‮ ‬وتحدث عن ظروف إصابته بورم خبيث من النوع العدواني‮ ‬Aggressive،‮ ‬وقد وصف الدكتور أحمد رد فعل والده بعد أن فاتحه بالأمر بالغريب‮!‬

كان الأستاذ هيكل‮ ‬يومها في برقاش،‮ ‬لاستقبال بعض الزوار،‮ ‬وما أن فرغ‮ ‬من عمله‮ (‬في حدود الثانية ظهرا‮)‬،‮ ‬حتي صعد إلي‮ ‬غرفة نومه،‮ ‬فتوجه إليه الدكتور أحمد‮ – ‬الذي كانت مشاعره ملتبسة بين خشية من مفاتحته في أمر إصابته بالمرض وخوفا من ردة فعله‮.‬

وربما كان قول الأديب والسياسي الألماني‮ ‬يوهان جوته‮ ‬يومها في ذهن رجل الأعمال الدكتور أحمد هيكل‮: “‬المواجهة هي أقصر الطرق للوصول إلي الهدف‮”. ‬وهكذا استجمع أمره‮.. ‬وفاتح الأستاذ هيكل‮!‬

وفاضت الأحاسيس الإنسانية والحنان الأبوي المتحررتان من كل عقل‮.. ‬فإذا عيني الأستاذ هيكل في حالة انهمار كهبوب العواصف،‮ ‬ودموعه تنافس الأمطار في انسكابها‮! ‬

وقد عدت لمجموعة أوراقي،‮ ‬ووجدت بأن الأستاذ هيكل قد‮ ‬غادر إلي الولايات المتحدة‮ (‬ولاية بوسطن حيث‮ ‬يتواجد بها أفضل مستشفيات لعلاج مرض السرطان‮) ‬يوم الأربعاء‮ ‬13‮ ‬فبراير‮ ‬2008،‮ ‬متغيبا عن افتتاح الدورة التدريبية التي تنظمها مؤسسة هيكل للصحافة تحت عنوان‮ “‬الصحافة تاريخ سائل‮”‬،‮ ‬والتي استضافت خلالها المؤرخ البريطاني السير أليستر هورن Sir Alistair Horne!لكن عناوين جميع الصحف كانت تتحدث عن أزمة صحية طارئة ألمت بالأستاذ هيكل‮ (‬قصور في الدورة الدموية‮)!‬

وهو ما‮ ‬يثبت بأن الأستاذ هيكل قادر علي ترك مسافة بينه وبين أقرب المقربين له،‮ ‬تطبيقا للمثل الأمريكي الشهير‮: “‬He plays his cards close to his chest هو‮ ‬يلعب وأوراقه قرب صدره‮”!‬