مصطفى إبراهيم .. بل تستحق الذكر والإشادة

محمد الزلبانى

فى واحدة من لحظات الصفاء الروحى وتواضع المبدعين، يجيب الشاعر الكبير الراحل ” عبد الرحمن الأبنودى ” عن سؤال ذكى من إعلامية نابهة نفتقدها الآن وهى الرائعة ” دينا عبد الرحمن ” عندما سألته : ” أى القصائد تمنيت وأنت أحد مبدعى العامية أن تنسب إليك وأن تكون من روائعك ؟” فأجاب من فورِه : قصيدة ” فلان الفلانى ” .. الخال وقتها لم يكن يعرف لمن تنسب تلك القصيدة؛ وبما أنه فى حضرة إعلامية ” مثقفة ” ــ وآه من ندرة المثقفين الآن فى الإعلام ــ أخبرته بأنها لشاعر شاب يدعى ” مصطفى إبراهيم ” .

مصطفى إبراهيم ذلك الشاب الذى لم يتجاوز الثلاثين ربيعاً ” مواليد 1986 “، منذ بداياته وأشعاره فى ديوانه الأول ” ويسترن يونيون فرع الهرم ” الذى كان من إصدار دار” ميريت ” عام 2011 تنبئ بميلاد شاب يُرتكن إليه لحماية الشعر العامّى مما طاله من إجرام فى حقه من قِبَل أناس يكتبون كلاماً أشبه بغثاء السيل يسمونه ” حاشا لله ” شعراً؛ لكن واقع الأمر يبين أن هؤلاء المُسمون زوراً شعراء ( إلا فيما ندر ) يكتبون كلمات متراصّة فوق بعضها لاهثين خلف قافية توحى للقارئ ” الفيسبوكى ” أنه شعراً؛ لكن بنظرة مهملة غير مكترثة ــ فذلك الهُراء لا يحتمل منك تضييع وقتك وجهدك ــ لن تجد بداخل تلك الكلمات المتراصة كالحجارة مضمونا أو قضية ما، فكلها كلمات أقرب ما تكون لـ “التسبيل ” وهى الجالبة لصرخات متابعاتهم على صفحاتهم على ” الفيس بوك ” وعلى إثرها إعجابات وتعليقات لا حد لها! أو طرح قضية أو حالة موغلة فى السطحية أكثرها عمقا مثلاً ” غدر الصُحاب ” ! لكن الحال مختلفة تماماً مع ” مصطفى ” الذى لا يهمه شهرة زائفة أو دواوين مبينة على أنقاض، لذا نراه لا يعنيه وجود ديوان له كل عام فى معرض الكتاب، فبعد ديوانه الأول يتخلف عامان ويُصدر فى العام الثالث ديوانه الثانى والأخير ” مانفيستو ” عام 2013 وهو الديوان الذى أكّد كل ما قيل عنه مذ صدر ديوانه الأول، أنه شاعر واعد يستحق الدعم الذى يحظى به فى أوساط المثقفين بعيداً عن هُراء وزيف السوشيال ميديا .. ذلك الديوان الذى ببساطة ودون مبالغة أوصله للعالمية، ذلك حين قامت دار Bloodaxe الإنجليزية للنشر بضم قصيدته ” مانيفستو ” ضمن كتاب يضم قصائد ما تسمى بـ ” شعر الحروب ” لأكثر من مائة عام مضت .. تلك القصيدة المقسّمة لمقطوعات تبدأ كل منها بأحد أحرف الكلمة عنوان القصيدة على الترتيب، من بينها :
س ..سمّى الحاجات دى بإسمها ” الكدب “، ” الخوف ” ، ” الخيانة ”
سجادة المسامير تتحط ع الناصية
ولّع قصادها كاوتش
سد الطريق لورا علشان متتردش
سيب باب لجيشهم يهربوا منّه
سلّم رايات الحلم لحد من سنّه
سلّم قراركم لأكتر كفّ عرقانة .

ما سبق،ألا يعُد دافعاً لشاب لا زال يتحسس أولى خطواته الشعرية ويجعله غزير الإنتاج؟!

إجابة هذا السؤال قد تجدها فى غاية السهولة وهى ” نعم ” ، هذا إن لم تكن على دراية كاملة بشعر مصطفى إبراهيم وقصائده التى تقطر بالإحباط، هذا لا ينفى وجود وقصائد مبشرة بالإنتصار فى نهاية المطاف .. فشِعر مصطفى الذى يعبر عنه وعن شباب جيله هو خير مُجيب عن هذا السؤال .

فبالنظر لشِعره الذى فى غالبه يعبر عن إحباطات جيل بأكمله خاب أمله فى ثورة كان يظن أنها طوق النجاة للخروج من حالة الركود التى يحياها مواليد الثمانينيات والتسعينيات، لك أن تتخيل أن له ثلاث قصائد بعنوان ” تفرانيل ” وهو االعلاج المضاد لنوبات الإكتئاب، هذه القصائد الثلاث تحمل عنوان هذا الدواء وإلى جواره درجة تأثيره .. ” 50 ، 75 ، 100″ .

هذا الإكتئاب ” على ما أعتقد ” كان سبباً فى إختفاء مصطفى بعد الديوان الثانى له والاخير ليعود بعده بعامين ويكسر هذا الإحتجاب بقصيدة وحيدة ” البنكنوت ” التى أطلقها على موقع ” ساوند كلاود ” وهى القصيدة التى أراها من أروع قصائده إن لم تكن الأروع ..
” الهوا هيحصّل المية اللى بقت ماركات
تعددية .. تعنى تعدد الشركات
حرية .. تعنى حق فتح القفص على الناس اللى ملهاش باب
الأخطبوط الرأسمالى إتساب
على الناس اللى ملهاش حظ
على الناس اللى ملهاش فُرَص ”

يمر عام ونصف على ” البنكنوت ” الصادرة فى مارس عام 2015 ليُصدر آخر قصائده الصادرة منذ ساعات وهى بعنوان ” معملش حاجة تستحق الذكر ” على نفس الموقع ” ساوند كلاود ” ، ننشرها هنا فى إعلام دوت أورج :

موظف عادى فى هيئة حكومية
إجمالى ما يحصل عليه
ألف وتُلتميت وحاجة جنيه
لا يعول، وغير مسئول إلا عن نفسه
لا يبوح للأصدقاء العابرين عن أمله أو يأسه
كان عادى جداً مضمون وشكل
مش شرير ومش طيب
مش موهوب ومش غبى
مش مجذوب ومش نبى
ولا حتى عاش قصة كفاح ع اللقمة فى بلد أجنبى
تلهم بتوع السيما يحولوها لفيلم
أو حتى يوحش حد ساعة الأكل
النوع اللى تستغرب لو جه لحد ف المنام
بس النهاردة فى المنام جالى
واقف على الشعرة اللى بين الوجود والعدم
فاتح عينيه .. ماشى فى شارعهم المليان تراب
خطاويه مبتعملش وراه
وكأنه من غير قدم ع الأرض
وكأنه كان ماشى بس الزمن هو اللى مبيمشيش
كان ماشى وإحنا متسمّرين حواليه
لحد ما بلغ الضباب بشويش
يشبه بطل أسطورى وخيالى
معملش حاجة تستحق الذكر
غير إنه واقف لسة على رجليه

https://soundcloud.com/mostafa-ibrahim-8/p8ion4ipqv5f

ما نرجوه من مصطفى إبراهيم ألّا يتركنا فريسة سهلة لمدّعى الشعر ويُتحفنا من آن لآخر بمثل تلك الإبداعات، حتى وإن كانت موغلة فى الكآبة والإحباط، أملا فى النصر فى النهاية كما بشرنا هو فى إحدى إبداعاته ” ثم فجأة الكل يتعب .. ثم إن الجيش هيقتل .. ثم إن حمارنا يغلَب .. ثم جيم الدومينو يقفل .. ثم مصر عايزة زقة .. ثم ناس متقولش لأّ .. يركبوا ع الثورة تانى .. ثم نخسر .. ثم نكسب ”

ثم نكسب يا مصطفى .