عمرو منير دهب يكتب: بين عبد الوهاب وأم كلثوم وفيروز

بلغت أم كلثوم من المكانة ما جعلها لأجيال عديدة بمثابة الرمز الغنائي الأبرز الذي غالباً ما يحتل الصدارة في "الاستفتاءات" التلقائية على المنابر الشعبية في أيِّ من بقاع العالم العربي لا في مصر وحدها، وهي مكانة استحقتها لا بمقاييس الطرب الفنية الخالصة وحدها وإنما إلى ذلك بشروط النجاح الجماهيري القاسية التي هي مزيج من الإجادة الفنية والمهارة في التعامل مع المؤثّرين في الإعلام ومع الجماهير، بالإضافة إلى روح المثابرة؛ وقد حاول البعض اختزال تلك الشروط في بيت شوقي الخالد الذي صدحت به أم كلثوم نفسها:

وما نيل المطالب بالتمنّي * ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا

ولكن ليس التمنّي فقط، وإنما حتى الإجادة – على أي صعيد – لا تضمن خضوعَ المطالب للحالمين بها أو المتطلّعين إليها، كما إن الدنيا لا تؤخذ غلاباً فحسب بل مهارةً ومرونةً ومثابرةً أيضاً. برغم كل ذلك، ظلّ بيت "أمير الشعراء" عظيم الفضل في استرعاء الانتباه إلى أن القدرة/المهارة التنافسية الخارقة من أبرز عوامل النجاح الحاسمة.

نالت أم كلثوم إذن تلك المنزلة الخاصة جدارةً لا ريب، ولم يمنع ذلك من أن يكون لها منافسون ومنافسات على الحظوة الجماهيرية من جيلها ومما تلاه، فلم يكن ما خاضته ثنائية تنافسية واحدة (وأرجو أن يجوز التعبير)، إذْ قورنت جماهيريتُها زمناً بأسمهان صاحبة الحضور الصوتي الفريد، وحيناً بمحمد عبد الوهاب صاحب المكانة الموسيقية والفنية الطاغية، بل حتى بعبد الحليم حافظ الذي كانت له بدوره ثنائيته الخاصة والمتميزة مع فريد الأطرش.

في مرحلة جدّ باكرة على صعيد تذوّقي الفنّي، سعدتُ عميقاً حينما عرفت أنّ قريباً حبيباً بالغَ المعزّة - أقدّره إنساناً ومتذوّقاً فنّياً أبلغ تقدير - يقدّم عبد الوهاب على أم كلثوم من حيث الحظوة الشخصية لديه رجوعاً إلى رؤيته الفنية الخالصة. يبدو لي ذلك الآن كما لو كان بمثابة بواكير انتباهي إلى أهمية ولذة تحرّي الذائقة الخاصة عوضاً عن الركون إلى أمان الانصياع للذائقة الجماهيرية العامة. بعدها بقليل – ربما بأشهر معدودات – كنت (أنا ابن المدرسة الابتدائية حينها) مصدراً لسعادة واعتداد معلم اللغة العربية حين أقحمتُ ذِكرَ عبد الوهاب في حديث ذي صلة في فسحة بين الحصص الدراسية فسُرّ معلّمي سروراً بالغاً لتلك "الإشراقة" التذوّقية الفريدة من تلميذه الصغير، وكان الرجل فيما بدا يعدّ عبد الوهاب فنّانه العربيّ المفضّل؛ وعبد الوهاب رغم مكانته الفنية الطاغية على امتداد الأجيال لم يكن في منزلة أم كلثوم من حيث الحظوة الجماهيرية الكاسحة، فظلّ تقديمُه من قِبل أيٍّ من المتابعين - والحال كتلك – ينطوي على جرأة فنيّة وجسارة نفسية/اجتماعية في الوقت نفسه.

بعدها بأكثر من عشرة سنوات أيامَ الدراسة الجامعية أو في أعقبها بقليل، وخلال جلسة سمر روتينية، بادرَنا أحدُ الأصدقاء الأعزاء بسؤال "اختباري" عن أقوى الحناجر النسائية العربية فذهبتْ ظنونُ أغلب الحاضرين إلى ترجيح كفّة أم كلثوم كما هو متوقّع، وكانت سعادة صديقنا واضحة بمخالفة ظنون الحاضرين (كما كان يتوقّع) مؤكّداً أن "الرقم القياسي" - استناداً إلى ما روّجه على أنه دراسة أكاديمية – يعود إلى سيدة لبنانية تليها سيدةُ الغناء العربي. لا تبدو القصة موثّقة، فلا نعلم مقياس قوة الصوت الذي استندت إليه دراسة صديقنا إذا صحّت ابتداءً، ومخرجات الدراسة على كل حال ليست ذات قيمة فنّية تتجاوز نشوة تحطيم رقم قياسي ذي صلة بالغناء؛ ولن أستغرب إذا أقيمت بالفعل دراسة علمية لاختبار قوة الصوت – استناداً إلى أيّ معيار – وخلت قائمة الفائزين العشر الأوائل من أسماء أيٍّ من المغنيات والمغنين المرموقين، فالطرب جملةٌ من الهبات والأدوات يُعتبر الصوت إجمالاً – لا قوّته فحسب - واحداً منها، أمّا امتياز النجاح والشهرة واعتلاء قمة الذيوع الجماهيري فحدِّث عن عوامله العديدة المتداخلة ولا حرج، تلك العوامل التي أشرنا إلى بعضها إشارات عابرة فيما تقدّم من حديثنا هذا وبقدر من التفصيل في غيره من المقامات المستقلة.

على صعيد أسطورة غنائية أخرى شديدة الخصوصية، نتأمّل حنجرة لبنان الذهبية التي امتدّ إبداعها الفريد لأكثر من خمسة عقود، فقد ذهب المعجبون الحالمون إلى نعت أنغام حبالها الصوتية بالأصوات الملائكية، في حين ذهب معجبون آخرون أكثر واقعية إلى تشبيه ألحانها المؤدّاة بأنغام آلة موسيقية تنساب صفاءً وتتعالى عنفواناً.

فيروز قصة أخرى في فرادة حظوة المتابعة والذيوع تجمع بين الجماهيرية الطاغية والنخبوية بالغة الحماس في آن معاً. جمهورها عريض على امتداد العالم العربي بما في ذلك مصر حتى إذا لم تكن تبلغ فيها من الشهرة والحظوة مبلغ عبد الوهاب وأم كلثوم؛ هذا الجمهور "الفيروزي" العريض يتباهى – في مزيج من السرّ والعلن – بنخبويّته التذوّقية التي لا تخذلهم بشأنها "سفيرة لبنان إلى النجوم" وهي تمسك بعصا ليست سحرية ولكنها توازن ببراعة طرفَي معادلة صفوة النخبة وعامة الجماهير التي تبدو مستحيلة.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: كاظم الساهر.. تجاوُز الخصوصية العراقية