"تل أبيب.. الإسكندرية".. الوطن حين يتجسد كخدعة كبرى!!

إسلام وهبان 

"لو لم يكن هناك إسرائيل لاخترعنا إسرائيل".. قالها جو بايدن عام 1986 حينما كان عضوًا بالحزب الديمقراطي، وكررها مرارًا بعد أن أصبح رئيسا لأمريكا، في أكثر من مناسبة وهو يتحدث عن العلاقة الاستراتيجية التي تربط الولايات المتحدة الأمريكية بإسرائيل، وضرورة وجودها في منطقة الشرق الأوسط، للحفاظ على مصالح أمريكا والغرب بأسره في هذه المنطقة ومدى أهمية هذا الكيان كحليف استراتيجي تم زرعه في الوطن العربي يضمنون ولاءه وعدم انحيازه لقوى أخرى مهما تغيرت الحكومات.. هذا الاحتياج والدعم غير المحدود الذي يقدمه الغرب لإسرائيل جعل منها آلة لتدمير المنطقة دون رادع أو خوف من عقوبات دولية.

في روايته "تل أبيب.. الإسكندرية" الصادرة حديثا عن دار العين للنشر والتوزيع، يكشف لنا الكاتب عماد مدين، الوجه الآخر للعلاقات الإسرائيلية مع الغرب، وكيف تستغل احتياج الغرب إليها في المنطقة لنهب المزيد من الدعم المادي والعسكري، وكيف أصبحت منذ اليوم الأول كيانًا مخادعا ليس للدول فحسب من خلال ادعائها سعيها نحو السلام في الوقت الذي تخطط وتنفذ فيه مجازر وعمليات تخريبية في العديد من دول الوطن العربي، لكن أيضا بخداعها لمواطنيها والمنتمين إليها لحساب قوى ومصالح كبرى.

نرشح لك: الخريطة الكاملة لأماكن تسكين الناشرين بمعرض القاهرة الدولي للكتاب 2024

تدور أحداث الرواية التي جاءت في 240، ما بين عامي 1954 و1978، حيث استوحى الكاتب أحداثها من واحدة من أشهر العمليات الاستخباراتية التي نفذتها إسرائيل في مصر في فترة الخمسينيات، والتي عُرفت بـ "فضيحة لاڤون"، أو عملية "سوزانا"، وحاولت من خلالها إسرائيل تنفيذ عمليات تخريبية من خلال تفجير عدد من المنشآت الأمريكية والإنجليزية في مصر، لإحداث اضطرابات في العلاقات المصرية الأمريكية والبريطانية، بهدف تراجع انجلترا عن الانسحاب من قنوات السويس، وذلك من خلال المجموعة 131، والتي تضم عدد من أعضاء الحركة الصهيونية وعدد من أفراد الجالية اليهودية في مصر في ذلك الوقت.


- الإسكندرية الكوزموبوليتانية

ترصد رواية "تل أبيب.. الإسكندرية" طبيعة الحياة الاجتماعية في مصر في فترة الخمسينيات، وحالة التتوع الثقافي والحضاري التي كان يعيشه المجتمع المصري خاصة في مدينة الإسكندرية، حيث التنوع البشري الفريد لأجناس وفئات المجتمع المختلفة، وحالة التسامح الديني والتعايش بين الأديان، فضلا عن التناغم الذي عاشه اليونانيون والإيطاليون والفرنسيون واليهود والأرمن وغيرهم وسط المصريين، كذلك ثراء الحياة الفنية والثقافية التي شهدتها تلك الفترة.

تأخذك الرواية بين شوارع الإسكندرية العريقة ومعالمها الأثرية الشامخة، من شاطئ سيدي بشر إلى شارع صفية زغلول، ومن ترام محطة الرمل إلى سينما راديو، ومن حواري المنشية إلى أزقة النبي دانيال من صوت شادية إلى ضحكات إسماعيل يس.. حياة تعج بالنشاط والحيوية والثراء الفكري والثقافي والإنساني، مدينة عتيقة بمفهومها الكوزموبوليتاني الذي قد يكون غائبا اليوم عن الإسكندرية.

- اليهود بمنظور مختلف

على الرغم من تناول العديد من الروايات للصراع العربي الإسرائيلي، والجرائم التي ارتكبها القادة السياسيون والعسكريين الإسرائيليون، وحال اليهود بعد قيام دولة إسرائيل بعد نكبة 1948، وما تلاها من أحداث بعد ثورة يوليو، إلا أن ما يميز هذه الرواية هو أنها قدمت صورة أكثر واقعية لليهود في مصر، بعيدا عن النموذج النمطي الذي تناولته العديد من الأعمال الأدبية أو الدراميا، والتي قدمته إما مُرابي جشع أو رجل بخيلة أو قواد.

تحكي الرواية عن مجموعة من اليهود المقيمين في مصر، والذين ينتمون إلى تنظيم سري للحركة الصهيونية، ورغم خيانتهم لمصر إلا أنهم يظهرون كبشر عاديين منهم من أجبرته الظروف على الانضمام لذلك التنظيم، ومنهم من يعيش قصة حب ويحلم بحياة أفضل، ورغم عدم حبه أو شعوره بالانتماء لمصر والمصريين إلا أنه لا يريد قتلهم.

كما تبرز الرواية مدى الصراع النفسي الذي عاشه اليهود في مصر بعد الإعلان عن وطن قومي لهم في فلسطين وقيام دولة إسرائيل، صراع ما بين الانتماء الديني والانتماء القومي، بين رغبة في البقاء في مصر رغم عدم قدرة البعض على الاندماج في المجتمع وخوف من مستقبل محفوف بالمخاطر خاصة بعد ثورة 1952 وتولي جمال عبد الناصر السلطة والخوف من تكرار ما فعله هيلتر مع اليهود. كما تحاول الرواية الإجابة على سؤال "لماذا لم ينصهر اليهود داخل المجتمع والثقافة المصرية على عكس كثير من الأعراق والأطياف الأخرى التي شكلت وجدان المجتمع؟

- سرد سينمائي مشوق

كان عماد مديَّن منذ اللحظة الأولى أمام تحدِِ كبير، حيث أنه اعتمد في روايته على واقعة "فضيحة لافون" التي تناولتها العديد من الأعمال الأدبية والدرامية، إلا أنه نجح في جذب القارئ من الصفحة الأولى بخطاب الرئيس الراحل محمد أنور السادات ودعوته لزيارة تل أبيب، وبمشهد يحبس الأنفاس بوصول السادات إلى مطار "بن جوريون" بإسرائيل، واستخدام أسلوب سردي مشوق يميل إلى السرد السينمائي مع إعطاء أهمية خاصة للزمان والمكان، فتجد الكاتب يتحرك بسلاسة بين الأماكن من تل آبيب إلى الإسكندرية إلى القاهرة إلى باريس، مع استخدام تقنيات سردية متنوعة وطرح العديد من التساؤلات وتناول قضايا ملحة مثل مفهوم الوطن والبحث عن الهوية.

المشهدية كانت صفة أساسية في هذا العمل، فقد لعب الزمان والمكان دورًا خاصًا ومحركًا رئيسًا للأحداث، فتقرأ الرواية وكأنك تشاهد فيلمًا سينمائيًا بمشاهد واضحة وحوار يعكس المستوى الثقافي والاجتماعي لشخصيات العمل، فقد عرض الروائي أحداث الرواية بشكل تفصيلي؛ كي يتيح للقارئ معاينة الواقع الذي عاشه اليهود في المجتمع المصري، وكذلك الغوص في خبايا الداخل الإسرائيلي ومعرفة كيف يفكر ويتعامل هذا الكيان مع مَن ينتمون إليه.

- الصدمة

مثلما يتعلم الإنسان بالتجريب، يتعلم أيضا بالصدمة، وقد حاول الكاتب أن يعطي بعدا آخر للصدمة، وهو الصدمة في الوطن، فحينما يكون الوطن قد بُني على أكذوبة وتأسس على قواعد من الخديعة والنفاق والقتل، يكون انهياره وكشف تلك الخديعة مدويًا لكل من انتمى إليه، فمن الممكن أن يبحث الفرد على صديق آخر أو طريق جديد حين يكتشف زيفه، لكن ما الذي يمكن أن يفعله المرء إذا اكتشف أن وطنه وكل الشعارات التي كان يؤمن بها مجرد "خدعة كبرى"؟!

أعتقد أن ما يعيشه المواطن الإسرائيلي هذه الأيام وبعد السابع من أكتوبر هو نفس ما عاشه "داسا" بطل الرواية من صدمة بعد انهيار كل الشعارات وانكشاف الأكاذيب والادعاءات الإسرائيلية حول صورة الجيش الذي لا يُقهر وأهمية وقيمة المواطن في إسرائيل.

"تل أبيب الإسكندرية" رواية كاشفة تعكس الداخل صورة واقعية للداخل الإسرائيلي وكيف تُدار إسرائيل، ويقدم صورة غير منحازة لما عاشه يهود مصر بعد ثورة 1952 وكشف لعوار المجتمع الدولي والقوانين العالمية وطرح جريء لألاعيب الكيان المحتل التي يديرها مع الغرب.