عمرو منير دهب يكتب: الزمان والحقيقة.. الفصل السابع والعشرون من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"

الحقيقة ليست محجوبة بطبقات بحيث يصبح مسوَّغاً ادّعاءُ أيٍّ من الناس أنه يسعى إلى نزع هذه الطبقات لكشف الحقيقة المجرّدة. في الواقع، الحقيقة عارية ويسعى كلُّ طرف إلى أن يُلبسها ما يروقه من الثياب.

هل تغيّرت تلك "الحقيقة" على مدار التاريخ؟ تصعب الإجابة لأن "مدار التاريخ" أشدّ دوراناً ومراوغة مما نظنّ، فنحن نختلف في تفسير ما يقع في الحاضر وأمام أعيننا، ما يعني أن الخلاف حول ما وقع مما لم نره – وأحياناً مما لسنا على يقين أصلاً من حدوثه وفق السيناريو الذي نقرؤه في ضوئه – سيكون شديداً ومعقّداً لا محالة إذا كان مرامنا حقّاً هو الوصول إلى "حقيقة" ما وليس تأكيد مزاعمنا بخصوص وجهة نظر نستبسل في إثبات صحّتها لدواعٍ عاطفية أو فكرية أو عقائدية من أي قبيل.

مثل أي مفهوم أو كيان في الغالب، التاريخ مرتبط بالمكان والزمان؛ فنحن لا ندرس تاريخ الإنسان مطلقاً وإنما بما لا يمكن أن يكون في معزل من المكان الذي عاش فيه الإنسان ومجتمعه موضوع الدراسة. لكن يبدو التاريخ على كل حال أشدّ ارتباطاً بالزمان، بل يكاد التاريخ يُختصر عندما يتبادر مفهومه إلى الخاطر في الزمان وحده، أو على الأقل في الزمان ابتداءً وبصورة أساسية. التاريخ يُعنى بالمكان بقدر ما يسعنا أن نحيط بالأماكن على اختلاف بقاع الأرض، بل وعلى مدار الكون؛ ولكنه (التاريخ) معنيٌّ عموماً بمرحلة مجملة من الزمان يمكن اختصارها في "الماضي"، بصرف النظر عن المدى الذي يمكن أن يرتدّ إليه ذلك "الماضي" إلى الوراء (وصولاً إلى الأزل).

بذلك في الاعتبار، وفي حين أننا نُقبل على دراسة التاريخ لمعرفة "الحقيقة" المتعلقة بموضوع دراسة بعينه، فإن التاريخ يزيد بصورة مفاجئة من شكوكنا حول "الحقيقة" التي نسعى إليها كلما فتح لنا كشفاً جديداً، وذلك بحيث يضطرنا إلى الإقرار بأن "الحقيقة" المثلى هي شيء لم يُكتشف بعد، هي ما سنكتشفه غداً، إلى أن يحين اليوم الذي يلي غداً ليكتب بدوره تعريفاً آخر للحقيقة (ليس جديداً بالضرورة) في ضوء ما تميط عنه اللثامَ اكتشافاتٌ علمية جديدة علينا في دراسة التاريخ.

المستقبل ليس أقلّ إرباكاً بشأن الحقيقة، بل العكس؛ فهو اكتشافات متتالية تعيد نظرتنا إلى الأمور وتُخضعنا سطوةُ تلك الاكتشافات إلى إعادة تقييمنا للأشياء من حولنا، حتى أشدّ ما كنّا مستبسلين في التمسّك تجاهه برؤية واحدة عنيدة. كلّ ما هنالك أننا عادة نبدي انفتاحاً إزاء المستقبل لتقبّل الحقائق الجديدة – وحتى لإعادة تعريفنا للحقائق القديمة – أكثر مما نبديه إزاء التاريخ؛ فغرورنا يصوّر لنا أنّنا نعرف الماضي بما يكفي ولا نجهل المستقبل إلّا لأنه لم يقع بعد.

في "يقظة الذات: براغماتية بلا قيود" The Self Awakened: Pragmatism Unbound ، الترجمة العربية صادرة ضمن سلسلة "عالم المعرفة" عدد مايو 2010 عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، وتحديداً في الفصل السادس بعنوان "حقيقة الزمن: تحوّل التحوّل"، وتحت العنوان الفرعي "الزمن حقيقي"، يقول المفكر البرازيلي روبرتو مانغابيرا أونغر Roberto Mangabeira Unger: "ليست هناك حقيقة أكثر أهمية لِأن نقرّ بها إذا أردنا أن نفهم أنفسنا ومكاننا في العالم. إن حقيقة الزمن ليست ملاحظة تافهة بلا معنى، بل هي مقترح ثوري، غير متوافق مع جزء كبير من العلم والفلسفة التقليديين. وبصفة خاصة، فهي تمثّل لعنة anathema للفلسفة الدائمة، والتي تتخذ زيف الزمن كعقيدة رئيسية. وبالنسبة إلى الوجود الإلهي والمطلق، وبالنسبة إلى العقل – إلى حد مشاركة العقل في مثل هذا الوجود – فإن جميع الأحداث الجارية في العالم، وفقاً لتلك الفلسفة، تكون متزامنة؛ فليس هناك سوى حاضر أبدي. وعلى أي حال، ليست الفلسفة الدائمة وحدها هي التي تقاوم الإقرار بحقيقة الزمن؛ فالعلاقات المنطقية أو الرياضية بين الافتراضات، حتى عندما تشير إلى الأحداث التي يبدو أنها تقع ضمن الزمن، تبدو هي نفسها سرمدية، وبالتالي، فبعد أن نخلّص أنفسنا من تأثير الفلسفة الدائمة، فقد نستمر في اكتشاف مؤامرة ضد الإقرار بحقيقة الزمن، والمترسخة في الحصن الداخلي لحياتنا العقلية".

عند دراسة الحقيقة في ضوء الزمان، نبدو إذن أمام مفارقة تتجلّى في معرفة حقيقة الزمن نفسه، ووفق روبرتو مانغابيرا أونغر وتعبيره الأخير في هذا المقتطف من كتابه القيّم، فإن ثمة مؤامرة ضد الإقرار بحقيقة الزمن، وثمة حصن داخلي متعلّق بحياتنا العقلية نرسّخ فيه ما نشاء من مفاهيمنا عن الحقيقة، حقيقة الزمن تحديداً في هذا السياق. هذا، ويصل اختلافنا في استيعاب حقيقة الزمن ذروته مع إدراكنا أنه لم يقتصر فقط على مجرد تعريفات متباينة للزمن بل أفضى إلى الحديث عن "زيف الزمن" دفعة واحدة. تلك مفارقة كبرى، ومن الحكمة أن نتذكّر أنه عندما يتعلّق الأمر بالمفارقة عموماً، فإن الشيء ونقيضه ليس فقط من الممكن حدوثهما وإنما من الضروري وقوعهما في آن معاً. ذلك في الواقع هو تعريف المفارقة؛ وجدير بالانتباه أن المفارقة – على أي صعيد وليس فقط بالنسبة لحقيقة/زيف الزمن – لا تحدث فيما يتعلّق برؤية فريقين متقابلين لمفهوم ما، بل برؤية أيِّ فريق للمفهوم نفسه من وجهتَي نظر متعارضتين يعلن إحداهما ويضمر الأخرى، بوعيه أو دون وعي منه.

هكذا، وبصرف البصر عن تقديرنا لقيمة ما بين أيدينا من الحقائق على أي صعيد، يبدو أنه لا مناص من أن يقودنا السير في هدى الزمان بحثاً عن الحقيقة إلى ضياع ما بحوزتنا من اليقين حول الحقيقة، ومن ثم اختراع مفاهيمنا الخاصة والمتبدّلة دوماً عن الحقيقة المشتهاة.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])