عمرو منير دهب يكتب: غريزة الاقتتال.. الفصل السادس والعشرون من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"

خلال جولة سريعة بين ما يمكن أن يصلح كمصادر إحالة بغرض التعليق في غضون الموضوع، حاولت ما وسعني أن أجد ما يصلح للإشارة إليه في المرجع الشهير "فن الحرب" The Art of War، المنسوب إلى "الخبير" الاستراتيجي العسكري الصيني سن/صن تزو Sun Tzu الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد. حاولت، لكنني لم أظفر بما يمكن أن يمتّ بصلة إلى دوافع الحرب وإلى تأكيد أن الاقتتال بمثابة الغريزة الأساسية لدى البشر. بدا لي بإعادة تصفّح الكتاب أن صن تزو كان يعتبر ضمناً أن الحرب لا مناص منها وأن ضرورتها مسألة بديهية لا تحتاج إلى إعادة تأكيد، فكان ذلك أبلغ "اقتباس ضمني" – وأرجو أن يجوز التعبير – أخرج به من المرجع الصيني الذي طبقت شهرته آفاق الاستراتيجيات العسكرية عبر القرون.

ليست الحرب - بمدلولها الشامل أو حتى المنحصر في معارك/صراعات صغيرة - هي فقط المتأصّلة في النفس البشرية كما لو كانت غريزة أساسية، وإنما الاقتتال - بصفة عامة وعلى كل صعيد – هو ابتداءً الغريزة بالغة التجذّر في نفوسنا مهما تكن ادّعاءاتنا التي نتشبّث بها إزاء مبادئنا وأعراف مجتمعاتنا على اختلافها.

في الحروب – بمدلولها الحرفي – مرجعيّاتنا الأخلاقية مبتذلة بما يصل إلى حدود افتضاحها من شدة التكرار، ولكنها تنطلي على الجميع، أو – للدقة – لا يجد الجميع بدّاً من الانصياع لها بطريقة أو بأخرى ولسبب أو آخر. في "زمن المحارب"، ترجمة AGE OF THE WARRIOR العربية عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ببيروت سنة 2010، وفي مقال بعنوان "القتل هو القتل هو القتل..." نُشر ابتداءً في صحيفة "ذي إندبندنت" The Independent بتاريخ 18 أغسطس 2001، يقول الصحفي البريطاني الراحل روبرت فيسك Robert Fisk: "لطالما صنعت الحروب حيلها الشفوية وجملها الموضوعية وصورها المجازية الصحية، من "الأضرار الجماعية"، إلى "القضاء على العدو"... أوافق على استخدام المصطلح "الإرهاب"، شرط استخدامه على إرهابيّي الجانبين". بغض النظر عن تفاصيل وجهات نظر فيسك الشخصية والسياق الخاص لمقاله، فإن تلك إشارة بالغة الاقتضاب لما في حوزة آلة الحرب الإعلامية من مصطلحات برّاقة لا تنفد، لكن الأخطر من ذلك ما في حوزة مشعلي الحروب من حجج لا تنفد بدورها ولا تكتفي بمنطقها العملي الذرائعي فحسب وإنما تتدّثر بمسوح أخلاقية لا تخلو من الوجاهة بالضرورة في كل الأحوال.

في حياتنا، بصفة عامة، الاقتتال أشدّ تجذّراً وتغلغلاً ومراوغة، وإرباكاً من ثمّ؛ فأشكاله وتجلّياته لا تُحدّ. الاقتتال في أيٍّ من نواحي حياتنا يبدأ من اختلاف بسيط بداعي مصلحة شخصية عابرة يتجاذبها فردان، ويمرّ – ولا ينتهي أبداً - بما يصعب/يستحيل حصره من المشاكل والصراعات المتباينة في أشكالها وشدّتها مما وقع بالفعل ومما يمكن أن يقع في أية لحظة؛ والفكرة الأخيرة واحدة من أبرز دواعي الصراع ومبرّراته في الوقت ذاته، فمَن يبدأ الصراع فيشن الهجوم يتذرّع بأن الآخر كان سيسبقه إلى ذلك لو غفل أو تراخى لبرهة وجيزة.

إذا كانت دوافعنا إلى الاقتتال كما رأينا لا تعدم حججاً منطقية ومبررات أخلاقية، بصرف النظر عن مواقفنا المتباينة بطبيعة الحال تجاهها، فإن الاقتتال لا يعدم بصورة موازية دوافعه التي لا تَخفى نزعتُها "الشريرة" الصرفة متمثّلة في الاستمتاع "الفطري" بمشاهدة الاختلاف/الصراع/الحرب كما لو كان عرضاً سينمائياً مفعماً بالتشويق والإثارة بما يتجاوز ما يعرض على شاشة السينما "الحقيقية".

في كتابه "الصراعات" Conflicts، الترجمة العربية صادرة عن المجمع الثقافي بأبوظبي سنة 1997، يقول المفكر المالطي إدوارد دي بونو: "من طبيعة المجتمع عموماً تشجيع وإثارة الصراع إلى أن يصل إلى درجة يصبح فيها غير مريح شخصياً. عند ذلك يكون قد فات الأوان لإبعاده. هنالك متعة في الصراع لأن هناك متعة في كلٍّ من العراك والمنافسة. حتى لو كانت النوايا حسنة يظل هناك استمتاع بالمهمة، الأهداف والعلاقة الحميمة مع مسيرة الاحتجاج. الحياة فاترة والصراع يضيف إليها الدراما والإثارة. الصراع يجعلنا متشوّقين لمعرفة ما يحدث بعد ذلك. هذا هو السبب الذي جعل الناس يلتصقون بأجهزة الراديو خلال حرب فوكلاند. الحديث عن الصراع شيء ممتع، وكل واحد يمكنه أن يأخذ جانباً ويصير خبيراً. لأسباب متعددة فإننا نشجع الصراع ظاهراً وباطناً. من الصعب أن نشجع نوعاً واحداً من الصراع ونعوِّق نوعاً آخر، لأن اللغة، الأسلوب والمواقف تتدفق من النوع المفيد النافع لتزوّد النوع الهدّام... كما أن المال بالنسبة للرجل الغني ليس سوى نظام حيازة أهداف، كذلك فإن إحصاء الجثث الميتة هو أسهل الطرق لإحراز النقاط بالنسبة لأي بطل".

ليسوا أبطال الحروب وحدهم، بل نحن جميعاً بصفة عامة دمويّون بما يتجاوز ما نجرؤ على مواجهته عندما نصطدم بأعراف مجتمعاتنا وبقيمنا الشخصية المتبنّاة لأيٍّ من الأسباب. ليس في هذه "الحقيقة" ما يدعو إلى الشعور بالخجل، فتلك فطرتنا، ولكن ثمة في غضونها الكثير مما يبعث على القلق لا ريب؛ إذ ليس من الحكمة – ولا من المنطق ابتداءً – بالنسبة لبني آدم أن يركنوا إلى ما هو فطري/غريزي دون محاولات جادة لـ"تهذيب" الفطرة/الغريزة. ثمة خطآن على هذا الصعيد من المهم الانتباه إلى تلافي الوقوع في أيٍّ منهما: أن نظنّ أن مساعي "التهذيب" تلك لها نهاية تتوقّف عندها (فالأمر أشبه بحلقة مفرغة لا مناص من الدوران فيها)، وأن ينطلي علينا أن أخلاقنا وأعرافنا المهذّبة تلك – في أية مرحلة من مسيرة السعي إلى التهذيب – هي الحق/الأصل الذي جُبلنا عليه وأن ما سواها هو الباطل/الزيف. الأرجح أن "غريزة" الغرور متمكّنة منّا إلى درجة أننا نرتكب كلا الخطأين بصورة مستمرة، ولكن بأشكال متباينة وأقدار متراوحة رجوعاً إلى طباعنا المختلفة والمتشابهة في الوقت نفسه.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])