ميشيل حنا: لماذا يغضب الرئيس كثيرًا من الإعلام؟

 

في أيام فورة ثورة يناير وشهور المدّ الثوري التي تلتها، كان مبنى ماسبيرو أحد أحصن الأماكن في برّ مصر، وأكثرها تشددا في الحراسة والتأمين.

مبكرا جدا أدرك المجلس العسكري الحاكم أن من يملك ماسبيرو هو من يملك حكم الدولة. ماسبيرو أهم من وزارة الداخلية ومجلسيّ الشعب والشورى وأهم من أية منشأة أخرى.

لطالما لعب ماسبيرو دورا محوريا في توجيه الجماهير وتشكيل وعيها وتربيتها على القيم التي تريدها لها الدولة، بدءا من تليفزيون 1960 ذي الميول الاشتراكية الذي أنشأه عبد الناصر، مرورا بتليفزيون المجلس العسكري الذي حذر الشعب من أن الأقباط يقتلون الجيش، ودعاه للنزول لحماية الجيش من القتل. التليفزيون الذي تخبط كثيرا أثناء فترة تخبط الدولة فظل يتأرجح عدة مرات بين يناير مؤامرة ويناير ثورة، وبين الإخوان رجال الدين والإخوان تجار الدين.. إلخ.

تنبَّه المجلس العسكري إلى أهمية ماسبيرو مبكرا، وتدلنا على هذا الواقعة التي نشرت على إثر تسريب فيديو كواليس إذاعة شريط تنحي مبارك، فقد كشف حازم العتر مصور الشريط أن عبد اللطيف المناوي رئيس قطاع الأخبار رفض إذاعة خبر أتاه من أنس الفقي وزير الإعلام، والخبر هو إقالة المشير طنطاوي من منصبه، وذلك قبل إذاعة خطاب التنحي بأربعة أيام، واتصل المناوي باللواء اسماعيل عتمان ليخبره بالواقعة، ومن تلك اللحظة صار هناك اتصال مباشر بين الجيش وماسبيرو، لتنقلب الأمور في اتجاه آخر تماما.

نلاحظ هنا أن المشير طنطاوي لم تتم إقالته من منصبه، فقط لأن الخبر لم يذع، فإذا أذيع الخبر لكان المشير قد أقيل! أي أن الحقائق هي فقط ما يذاع عبر التليفزيون، فإذا لم تذع لم تكن موجودة.

هذه النقطة تذكرنا أيضا بأغرب انقلاب تم في العالم العربي، وربما كان أغرب انقلاب في التاريخ، وهو الانقلاب الذي قام به أمير قطر السابق على والده أمير قطر الأسبق، إذ استغل الشيخ حمد بن خليفة وجود والده خارج البلاد، فقطع إرسال تليفزيون قطر لإذاعة البيان رقم واحد، وهو مبايعة مشايخ الدولة للأمير حمد حاكما جديدا للبلاد، وعرض التليفزيون مشاهد للشيخ حمد وهو يجلس متجاذبا أطراف الحديث مع المشايخ ويسلم عليهم، وذلك بدون إذاعة صوت، وكان القصر قد وجه دعوة للمشايخ وقام التليفزيون بتصويرهم وهم يسلمون على الأمير وهم لا يدرون ماذا يحدث! أي أن الانقلاب حدث لأن التليفزيون أذاع أنه حدث، ومادام الشعب قد عرف الخبر فلا يجرؤ أحد هنا من المشايخ فيعترض ويقول أنه لم يحدث، وقد سمّي هذا الانقلاب بعد هذا بالانقلاب التليفزيوني.

كل هذا تنبأ به الكاتب العبقري جورج أورويل في روايته 1984 الصادرة عام 1948، حيث العالم المستقبلي الذي يتحكم فيه أولو الأمر في خلق الله من المحكومين عن طريق شاشات البث، هناك شاشة بث في كل مكان في البيت وفي أماكن العمل والشوارع، تبث الأخبار التي يريدك الأخ الأكبر أن تعرفها، حيث الصحيح فقط هو ما يبثه التليفزيون، حتى لو قال التليفزيون جملا مثل “الحرب هي السلام”، “الحرية هي العبودية”، “الجهل هو القوة”. ألا تذكرنا هذه العبارات بعبارات أخرى سمعناها كثيرا في التليفزيون في السنوات القليلة الماضية مثل “نحن لم نطلق رصاصة واحدة”، “أيادٍ خفية تعبث بمقدرات الوطن”، “هناك طرف ثالث”، “إنهم ينفذون أجندات خارجية”، “حروب الجيل الرابع”، “مؤامرة على الاستقرار”، “مخطط خارجي”؟

ومنذ توليه الرئاسة، بل وفي الشهور التي سبقت ذلك أيضا، أعلن السيسي كثيرا أنه “زعلان” من الإعلام، وأنه يريد للإعلام أن يقف بجواره وأن يساهم في البناء ويقوم بدوره الوطني. غضب الرئيس من الصحافة عندما تحدثت عن قطع الكهرباء، رغم أن الكهرباء كانت تقطع فعلا فلم يكذب أحد. هذا بالطبع إدراك مبكر من رجل المخابرات السابق لحقيقة أن من يحكم الإعلام يحكم الدولة. من اخترع التليفزيون كان يهدف إلى صنع جهاز يقول ما حدث، لكن اليوم أصبح الحدث هو ما يقوله التليفزيون، أما ما لم يقله فهو شيء لم يحدث.